أنت الآن فى أقصى جنوب شرق محافظ سوهاج فى صعيد مصر.. قرابة 600 كيلومتر جنوبىالقاهرة.. هنا، وفى نهاية السبعينات، «حطت» طائرة الرئيس الراحل أنور السادات. كان فى زيارة لوزير الثقافة فى ذلك الوقت عبدالحميد رضوان، وعرف أن المكان أو اسم المركز هو «ولاد طوق». وكان الاسم غريباً ولافتاً، وتحول الاسم فى «دفاتر» الحكومة إلى اسم «دار السلام». وحتى هذه اللحظة، وأنت فى موقف السيارات بمدينة سوهاج، تجد من ينادى: «ولاد طوق.. ولاد طوق.. ولاد طوق».. وبجواره آخر وبنفس علو الصوت: «دار السلام.. دار السلام.. دار السلام».. كل على «هواه» أو مثلما يريد أن ينطق أو يقول. الكشح جنوبى هذه المدينة -قل دار السلام أو ولاد طوق- تجد قرية الكشح.. واحدة من أكبر قرى هذا المكان.. تقع بين النيل والجبل الشرقى.. أو يفصلها عن الجبل الشرقى ترعة «الفاروقية»، نسبة إلى الملك فاروق، أو ترعة نجع حمادى.. فهى قادمة من الجنوب ومرت فى طريقها على مركز نجع حمادى التابع لمحافظ قنا.. القرية يتجاوز عدد سكانها ال45 ألف نسمة. هناك تجد كنائس ومساجد ومدارس حتى الثانوية العامة.. يخرج التلميذ أو التلميذة من هناك إلى الجامعة مباشرة، إذا كان غاوى تعليم، أو يمتهن مهنة «يأكل منها عيش» ويبحث عن عروس.. فى هذه القرية تجد كل «الصنايعية الحريفة».. الذين ينتشرون بفعل مهارتهم فى كل قرى مركز دار السلام.. تريد «سباكاً.. مهندساً.. ميكانيكياً.. بنّاءً.. كهربائياً.. سمكرياً».. اذهب إلى هناك وأنت «مغمض العينين».. واطلب ما شئت. ورغم تصنيف مركز دار السلام على أنه الأفقر على مستوى مصر.. تجد الوضع مختلفاً فى «الكشح».. قيراط الأرض، حوالى 175 متراً، هناك هو الأغلى سعراً فى المحافظة.. كثرة الأموال والصنايعية والصراع على الأراضى جعله «الأغلى». عندما تسمع كلمة «الكشح»، ومعناها فى القاموس «إضمار الشر»، تتذكر فوراً تفاصيل الفتنة الطائفية التى جرت هناك بين مسلمى ومسيحيى القرية فى أواخر التسعينات والتى انتهت بمقتل أكثر من 20 قبطياً ومسلمين لا يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة.. واحترقت منازل ومحال وزراعات.. و«اهتزت» الدولة أيامها.. وهدأت الأمور واشتعلت من جديد فى العام 2000.. وظهرت مبادرة لتغيير اسم قرية الكشح إلى قرية السلام.. وقاوم الأهالى الاسم الجديد وحطموا لافتاته من على الطريق الرئيسى للقرية.. طريق القاهرةأسوان. 4 قتلى فى هذه القرية، وبالتحديد يوم الخميس قبل الماضى، 25 أبريل، عاد بهيج وصفى «مقاول» إلى منزله.. منزله من 3 طوابق وسطح.. وبحث عن زوجته، فرحانة جرجس، 43 سنة، وأطفاله الثلاثة: مارى 13 سنة، وبيشوى 10 سنوات، وروستينا 7 سنوات، ولم يجدهم.. سأل ابنته الكبرى، 19 سنة: «أمك فين؟».. ردت الابنة بهدوء: «خرجت من شوية وما قالتش هىّ رايحة فين».. كانت الساعة تقترب من التاسعة مساء عندما عاد المقاول إلى منزله.. انتظر قليلاً.. وظل يبحث مع ابنه الأكبر عن الأم والأطفال الثلاثة.. بعد ساعة، قادته قدماه إلى سطح المنزل.. وجد زوجته ملقاة جثة هامدة بجوار فرن بلدى.. الجانى أنهى حياتها بضربات فوق الرأس بآلة حادة وذبحها من رقبتها، وغطى جسدها بكمية من «البوص»، أعواد من زراعات الذرة الرفيعة.. يسمونه فى الصعيد «قيضى».. صرخ الرجل واستغاث بابنه وبعض الجيران.. وصرخ أحدهم: فيه دم هنا.. يشير إلى الطابق الثانى بالمنزل.. وتقوده الدماء إلى «كارثة أخرى».. هذه جثث أولاده الثلاثة «مارى وبيشوى وروستينا».. تجمّع الجيران وحاولوا «تثبيت» الرجل.. «شد حيلك.. ومين يعمل كده فى مراتك والعيال؟».. فى الوقت نفسه كانت الابنة الكبرى تبكى وتصرخ.. وبجوارها جدتها العجوز، 70 سنة، التى تسأل: «طب اللى قتلهم.. قتلهم ازاى وليه ودخل منين؟» . ذبح هرول العشرات إلى مركز شرطة دار السلام.. أبلغوا المأمور والمقدم سامح محيى الدين، رئيس مباحث المركز.. أخبروه بمقتل سيدة وأطفالها الثلاثة.. المعلومة تصل إلى اللواء محسن الجندى، مدير أمن سوهاج.. علامات استفهام وترقب سيطرت على جميع القيادات الأمنية فى سوهاج.. ولسان حالهم يقول: «يا رب مايكونش الحادث وراه فتنة.. يا رب يكون حادث جنائى.. الكشح ممكن تولع من جديد».. ينتقل فريق كبير من المباحث.. هذا مدير أمن سوهاج اللواء محسن الجندى.. وهذا اللواء يونس الجاحر، وهو قيادى كبير بالأمن العام فى منطقة وسط الصعيد التى تضم أسيوطوسوهاجوقنا.. ومعه اللواء محمود العبودى، والعميد عصمت أبورحمة، رئيس المباحث الجنائية بالمحافظة، وعشرات آخرون من الضباط وأفراد الشرطة.. وسيارات الشرطة. معاينة الشرطة تكشف وجود جرح طعنى برقبة القتيلة وجروح قطعية متفرقة بالجسم وآثار ضرب بقطعة حديد كبيرة.. . إصابة مارى قريبة من الإصابات التى لحقت بالأم.. جرح طعنى بالرقبة وجروح قطعية متفرقة بالجسم.. نفس الطعنات وجّهها «القاتل» إلى الطفل بيشوى وأصابه بجرح طعنى بالرقبة وجروح قطعية أخرى.. أما الصغيرة روستينا فنالتها إصابات بجروح طعنية فى البطن تكفلت بإنهاء حياتها. الزوج قال شفاهةً لقيادات الأمن: «عدت إلى المنزل واكتشف الواقعة.. وأتهم نشأت حاتم رسمى وشهرته «شنودة» لوجود خلافات سابقة لرفضى زواجه من ابنتى «هناء» 19 سنة.. تدور الأسئلة فى رؤوس الحاضرين.. لماذا امتدت يد «القاتل» إلى الأم والأطفال الثلاثة ولم تمتد إلى والدة المقاول سميعة عبدالملاك، 70 سنة، والتى كانت بالمنزل ولم تغادره طوال اليوم.. وكذلك لم تمتد يد القاتل إلى هناء.. وهذه منافذ المنزل.. الأبواب والشبابيك كما هى.. ليس بها عنف.. أو سرقة.. الأدلة الجنائية تنتقل إلى المكان لإجراء المعاينة الفنية بحضور محمود خليل، مدير نيابة مركز دار السلام.. وحملت أوراق الجريمة محضر رقم 1666 إدارى المركز لسنة 2013 . الخيط اتهام الأب كان واضحاً.. يتهم شنودة، وهو سائق شاب فى القرية يعمل على سيارة نقل. وتقول التحريات إنه تربطه قصة حب ب«هناء بهيج» ابنة القتيلة وشقيقة الضحايا الثلاثة.. الأسرة رفضته لسوء سلوكه ولكن الحب استمر.. وبقى الأمل بين الشاب والفتاة أن يجمعهما بيت واحد وعقد زواج.. رغم كل العقبات والأزمات التى تقف فى طريقهما.. بهدوء شديد تبدأ المناقشات مع جميع من فى المنزل.. الأب.. وابنه الأكبر.. وابنته هناء.. وأمه.. وتوجه بعض الضباط إلى منزل «شنودة».. واتجهوا به إلى مركز الشرطة وهو يسأل من حوله: «طب فيه إيه.. قولوا لى إيه اللى حصل.. طب انا عملت إيه؟» وكانت الإجابة واحدة: «هتعرف.. بس انت كنت فين النهاردة؟». الجميع ينتقل إلى مركز الشرطة.. وتأتى سيارة الإسعاف وتنقل الضحايا إلى مستشفى دار السلام المركزى.. ليبدأ الطبيب الشرعى التشريح بقرار من المحامى العام لنيابات جنوبسوهاج المستشار إسماعيل زناتى.. الاستجواب كان «مركزاً» على «هناء».. فهى التى كانت فى المنزل وقت حدوث الجريمة.. وهى التى قالت فى البداية: «أنا ماسمعتش حاجة.. أنا ماشفتش».. وقالت لوالدها عند عودته من عمله وسؤالها عن أمها: «هى خرجت وما قالتش رايحة فين».. وسأل الضباط هناء: «إنتى ماخرجتيش من البيت.. ومافيش عنف فى الباب والشبابيك.. وماسمعتيش صوت غريب.. وقلتى لابوكى إن والدتك خرجت.. وهى ماطلعتش بره البيت.. واحنا هنشوف تليفون شنودة.. ونعرف كلّمتيه إمتى.. وحتى لو مسح الأرقام إحنا لينا طريقتنا وهنعرف كلّمتيه إمتى وازاى». اعتراف لم تجد الفتاة بديلاً.. قالت كل شىء.. وجلست فى مكتب رئيس المباحث، وروت تفاصيل «المجزرة»: «أنا باحب شنودة من وقت كبير.. يعنى قلنا نتجوز وانا نويت إنى أرفض أى جوازة.. مهما ده حصل.. شنودة هو حاجة كبيرة بالنسبة لى.. وكنت باكلمه كتير على التليفون.. كنت باقعد فى أوضة، بيتنا واسع، ونتكلم كتير.. وقال لى أنا هاجى البيت واطلب إيدك من ابوكى.. وفرحت.. بس الفرحة ماكملتش.. أبويا رفضه.. وكان حجته إن سلوكه مش حلو.. وإنه مادياً متواضع.. ومش هيقدر يصرف علىّ.. ورغم ده.. فضلت أنا وشنودة نتكلم.. وفى البيت ضيقوا علىّ.. وأخدوا منى التليفون.. وماكنتش عارفة أكلم شنودة.. كنت زى المجنونة.. وماقدرتش أتصرف.. كنت خايفة من ابويا واخويا.. وصبرت.. بس من أسبوعين كده اتكلمنا أنا وشنودة.. فاجئنى وصدمنى، قال لى: فيه مشكلة كبيرة وماينفعش اتجوزك بعد اللى عرفته.. وأهلى هيرفضوكى.. مش أهلك هما اللى هيرفضونى». فضيحة «صرخت وسألته: فيه إيه يا شنودة؟.. قول فيه إيه.. كان متردد فى الأول وصوته بيروح وييجى.. يتكلم ويسكت.. وقلت له اتكلم يا شنودة.. بعدها قال لى: يا هناء.. أمك سلوكها مش حلو.. وبتخون ابوكى.. ومشيها بطّال.. وأنا معايا فيديو على الموبايل.. بيسجل وضع فاضح لأمك مع شخص كده.. وبصراحة كده ده مش هينفع.. وأنا ماينفعش اتجوزك وأمك بالشكل ده.. هيبقى منظرى وحش.. ماعرفتش أرد ولا أقول إيه.. إزاى أمى تعمل كده وتخون ابويا؟ وشنودة هيروح منى.. ماعرفش.. الشيطان دخل.. اتفقت معاه نقتل أمى.. واشترطت عليه إنى أشوف الفيديو الأول وأمسحه بإيدى.. كنت عايزة أضمن إن الفضحية ما تتعرفش وأسيطر على الموضوع من أوله.. وتانى يوم رميت له مفتاح بيتنا الرئيسى.. وقلت له يخش البيت يوم الخميس ما بين الساعة 4 و5 آخر النهار ويخلص على أمى.. ويوم الجريمة أنا كنت واقفة وراء الباب ودخل شنودة.. وأنا قفلت الباب بسرعة.. وأمى ساعتها كانت فوق السطح.. وقلت له: هىّ فوق.. فوق خالص.. طلع على السلم.. وأنا وراه، ولقى «عتلة» حديد على السلم خدها معاه.. واتسحّب وأنا باقول لك وراه، وضرب أمى على رأسها بالحديدة.. وهىّ زى ما تقول أغمى عليها.. وطلع مطواة وضربها فى رقبتها وبطنها.. وانا شفتها من بعيد وهى «قاطعة النفس».. ونزلت تحت وسبت شنودة.. قعدت مع جدتى.. عادى يعنى. مارى وبيشوى وروستينا وبعد كده شنودة وهوّ نازل شاف مارى أختى.. وضربها بالمطواة فى رقبتها وضربها تانى وتالت وماتت فى إيده ورماها ناحية الحمام.. وعمل نفس «العملة» مع بيشوى ورماه جنب مارى.. وكمان مع روستينا، بس روستينا مادبحهاش.. ضربها بالمطواة فى بطنها وجنبها وضهرها.. ورماها جنب اخواتى ومشى.. أنا عرفت اللى عمله مع اخواتى بعد ما مشى.. هو جرى بسرعة.. وأنا كنت خايفة عليه.. وكلّمته عشان اطمّن عليه اشوفه وصل البيت ولا لسه.. عشان كان معاه مطواة فى إيده، وخفت حد يشوفه وهو شايلها أو حد يشوفه وهو خارج من بيتنا.. وقلت له: وصلت يا شنودة؟ قال لى: آه وصلت، بس انا قتلت اخواتك.. شافونى واحد ورا التانى وخفت يقولوا علىّ والموضوع يبوظ وقتلتهم بالمطواة وجريت». ضباط المباحث أحضروا شنودة.. وقالوا له: «هناء قالت على كل حاجة.. قالت انك دخلت البيت وضربت امها بالعتلة وبمطواة وبعدين قتلت الثلاثة.. «شنودة» لم ينكر.. وكانت آثار جروح على ركبته ويده.. وقال لمن يناقشه: «آه قتلتهم.. أنا كنت ناوى اقتل الست بس.. لكن لقيت الولاد فى سكتى وقتلتهم.. أنا كان هدفى اتجوز أنا وهناء.. وأمها وقفت فى طريقى.. وبعد كده حصل موضوع الفيديو بتاع الست.. وكلمت هناء واتفقنا نقتلها ونخلص منها». ماحصلش اعترافات المتهمين، شنودة وهناء، تكررت كاملة وحرفياً فى تحقيقات النيابة التى باشرها محمود خليل، مدير نيابة المركز، والذى أمر بحبس المتهمين 4 أيام بتهمة القتل.. وحدد اليوم التالى لاقتياد المتهمين إلى مسرح الجريمة لعمل معاينة تصويرية.. وهى اعترافات مسجلة صوتاً وصورة للمتهمين فى مسرح الجريمة كأدلة على ارتكاب المتهم، أى متهم، لجريمته. وقبل توجه قوات الشرطة والنيابة إلى المنزل وبرفقتهم «شنودة وهناء»، قال المتهمان بصوت واحد: «احنا الشرطة ضغطت علينا.. قالوا لنا اعترفوا باللى حصل وهتروّحوا.. إحنا ماشفناش حاجة.. ماقتلناش حد.. نقتل ليه.. إحنا بنحب.. بنحب وبس»!