فى كل عيد أم، أحن إلى أمى، رحمها الله، وأشعر بأنى لم أوفِها حقها، وكيف لرجل أن يفى الأم ما تستحق، ومع هذه المشاعر الحزينة أتأمل كيف أن الأم المصرية واهبة الحياة لها مكانة مكانة خاصة وأدوار بالغة التعقيد فى خطاب الموت.. مفارقة مريرة لكنها الحقيقة. تتصدر المرأة خطاب الموت، وتحرص على صيانة تقاليده وطقوسه رغم معارضة الأجيال الأصغر ورغم عوامل التغير والتطور فى المجتمع. تدافع عن ثقافة وخطاب الموت وتقاليده دون أن تدرى أسرار هذا الخطاب أو جذوره الضاربة فى عمق تاريخ وشخصية مصر، والمفارقة أن حزن المرأة المصرية مختلف تماماً عن حزن الرجل، وأكثر عمقاً ومعاناة من الرجل. إن حزن المرأة المصرية ومعاناتها شامل وعميق وضارب بجذوره فى تاريخ مصر منذ أسطورة أوزوريس، فكل امرأة تمارس الحزن على موت عزيز لها فى مصر القرن العشرين هى بصورة أو بأخرى هى أوزريس، الأحزان ممتدة أو متواصلة دون أن تدرى أو حتى تعرف شيئاً عن أسطورة إيزيس وأوزوريس. يقع العبء الأكبر من ممارسات خطاب الموت على المرأة المصرية فهى التى يسند إليها اجتماعياً أدوار البكاء والصريخ وتعداد مآثر الميت، ورعاية المسنين من أفراد العائلة من الجنسين ومواساتهم. كما تتولى مهام إعداد الأطعمة التى تقدم للمعزين أو تساعد فى إعدادها وتوزيعها، وتتولى فى صبر استقبال المعزيات وزيارة المقابر كل يوم خميس وفى الأربعين وفى الذكرى السنوية، وتوزيع فطائر الرحمة والنور والفاكهة على الأقارب والأصدقاء والمقرئين والفقراء الذين يتزاحمون على زوار المقبرة. وتؤجل الأفراح لفترات مختلفة أو تتم بعد مرور عدة أشهر ولكن بدون مظاهر احتفالية واسعة، وفى بعض الأسر تخلع النساء كل الحلى من ذهب وفضة، حتى لا يظهرن به أثناء فترة الحداد، فهو من علامات الفرح أو التباهى، كما يمنع تشغيل الراديو والتليفزيون، ربما باستثناء تشغيل محطة القرآن الكريم، لكن هذا الطقس اختفى تقريباً فى ضوء زيادة الاعتماد على مشاهدة التليفزيون وظهور الكمبيوتر والإنترنت، وفى بعض الحالات المتطرفة الخارجة على الخطاب العام للموت، تقيم بعض الأمهات أو الزوجات فى الغرفة الملحقة بالمقبرة ولا تبارحها إلا بعد مرور الأربعين، وفى حالات نادرة تدوم الإقامة والحياة إلى جانب المتوفى حتى دعوى مؤانسته فى وحدته فى القبر. فى مقابل هذا التطرف الخطابى، هناك تطرف على الجانب الآخر حيث تتحدى بعض النساء لأسباب أيديولوجية ترتبط بالإسلام الوهابى أو لأسباب اقتصادية كل ممارسات خطاب الموت فلا يرتدين الملابس السوداء، أو يقمن بإعداد الأطعمة وفطائر الرحمة أو توزيع الفاكهة، كما يرفضن الذهاب لزيارة مقبرة المتوفى فى أيام الخميس أو الأربعين باعتبار أن كل ذلك بدع دخيلة على الإسلام، ويمكن القول إن التطرف الأول أو الثانى لا يعتبر انقطاعاً فى ممارسات الخطاب أو تحولاً فى ملامحه الرئيسية، بل مجرد تطرف قياساً عما هو سائد أو معارضة غير مؤثرة للسياق العام لخطاب الموت والحزن فى القاهرة. مهما يكن من أمر المعارضة أو التطرف عن خطاب الموت تبقى المرأة هى الأكثر حرصاً على ممارسة هذا الخطاب، كما تبقى ضحية هذا الخطاب، ولا يقتصر الخطاب على تقاليد وممارسات طقسية، بل الأهم هو المعاناة والحزن الذى تمارسه المرأة بحق ويسيطر عليها فى قسوة. تعانى المرأة من اختفاء الاب أو الابن أو الزوج وتجد نفسها بلا عائل فى مجتمع لا يزال فيه الرجل يقوم غالباً بدور المعيل للأسرة، كما تتعذب من موت الأم، فتحرم من أقرب النساء إليها وأحبهن إلى قلبها وتفتقد معانى الأمومة والعطاء، لذلك تمارس المرأة المصرية بامتياز الحزن والبكاء، وترسل فى حياتها اليومية بوعى أو بدون وعى من الرموز والدلالات ما يؤكد حزنها وشعورها بالضياع بعد موت الولد أو الأب أو الأم أو الزوج، ولذلك أيضاً نجد كثيراً من النساء يشخن سريعاً بسبب موت أحد الأحباء أو تظهر عليهن مظاهر القلق والتوتر المزمن مع ميل جامح للانطواء على النفس والزهد فى الحياة، وكثيراً ما يصبح الدين هو الملجأ لحزن المرأة والمركب الآمن لاستمرار حياتها بعد موت أحد أحبائها.