ملعون فى كل كتاب من يسهم فى إيقاظ الفتنة، ويستحق اللعنة أكثر من ينفخ فى نيران الاحتراب الأهلى الكامن تحت الرماد فى مصر. ويوجه هذا المقال الاتهام بهذا الجرم المشهود لخمسة أشخاص: الرئيس الحاكم ووزير عدله -أو وزير ظلمه لا فرق- ونائبه العام، ووزير داخليته، ووزير أوقافه. وبديهى أن المسئولية الأكبر تقع على أولهم باعتباره رأس السلطة التنفيذية وصاحب فضل تعيينهم جميعاً، ونقصد طبعاً فضله عليهم. لا يعنينى إن كانوا أعضاء فى جماعة الإخوان المتأسلمين أم لا، ما عدا الأول والأخير بالطبع فهم من الجماعة تلك. ما يعنينى أنهم جميعاً قد أقسموا باسم الله العظيم علناً على خدمة شعب مصر ورعاية مصالح الوطن. لكن هؤلاء الموظفين المختالين إن لم يكونوا من الإخوان المخادعين بالعضوية، فهم منهم خُلقاً وسلوكاً: يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون، وبئس الخُلق والسلوك. لقد خانوا جميعاً القسم كلما بدا مغنم سياسى لسلطة الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المخادعين. والأخطر أنهم، لأسباب سيأتى ذكرها، يوقظون الفتنة بين فئات الشعب وينفخون فى نيران الاحتراب الأهلى. يُدمى القلب بوجه خاص أن تضم هذه القائمة المستشار أحمد مكى، القاضى الفذ وأحد أعلام حركة استقلال القضاء فى عهد الطاغية المخلوع. والأهم إنسانياً أنه القاضى الفحل، والمسلم المصلىّ للفرض فى وقته وحاج بيت الله. هذا المثل الأعلى لكثيرين وطأ مواطن الذلل بعد أن التحق بسلطة الإسلام السياسى، فانطلق يعد لتقييد حريات الرأى والتعبير. والأدهى أن الرجل المفترض فيه الصلاح كذب جهاراً بشأن فضيحة قتل الشهيد محمد الجندى عندما أعلن أن تقرير الطب الشرعى خلص إلى أنه مات فى حادث سيارة، ولم يكن التقرير قد صدر بعد. ولكن بعد أن تكشّفت أبعاد فضيحة تقرير الطب الشرعى وانتهت لجنة طبية مستقلة إلى أن الشهيد مات بفعل التعذيب، عاد -القاضى قبل أن يكون وزيراً، وبعد أن يترك المنصب الزائل، إن كان ما زال يصلح للمنصب الجليل- إلى القول بأنه قال ذلك بناء على طلب وزير الداخلية، وإنه لم يكن قد اطلع على التقرير بعد. ولا غرابة أن قذف الشعب سيارته بالحجارة بعدها، وهل من يكذب للتستر على جريمة ارتكبتها الشرطة يصلح أن يكون وزيراً للعدل، ناهيك عن أن يكون قاضياً؟ والآن نعلم سر التصميم المستميت للرئيس الحاكم وسلطة الإسلام السياسى على إقالة النائب العام السابق والإتيان بمن يحتل المنصب الآن بديلاً له. بداية، من البديهى أن النائب العام الذى يُعيَّن من رأس السلطة التنفيذية منفرداً ينتظر أن يكون ولاؤه لمن عيّنه ويملك إعفاءه، ولو بمخالفة الدستور عند التعيين والإقالة على حد سواء. ومن دون التفتيش فى النوايا، فالجلىّ الآن من تكشُّف الوقائع أن النائب العام الحالى قد تخلى عن مهمته المقدّسة بأن يكون ضمير الشعب ومحاميه العام وتفرّغ لخدمة أغراض سلطة الإخوان، وتعقّب معارضيهم لإرهابهم، والتستر على جرائم سلطتهم، لا سيما تجاوزات الشرطة تحت الوزير الحالى الذى يبدو طامحاً للقب أسوأ وزير داخلية فى تاريخ مصر المعاصر. وعلى الرغم من الطنطنة الإعلامية التى صاحبت تعيينه، فلم يفعل النائب العام شيئاً للقصاص لشهداء الثورة ومصابيها، وجرى تجميد التحقيق فى قضية كنيسة القديسين وغيرها مما يكشف فساد السلطة التنفيذية، بل تستر على مقتل وإصابة مئات فى جرائم اقترفتها فى عهده قوات الشرطة باستعمال العنف المفرط حتى الذخيرة الحية من الأسلحة الآلية، كما اقترفتها جحافل شقاة صعاليك ينتمى بعضهم على الأقل إلى الجماعات الحاكمة، خصوصاً فى مدن القناة. وبالمقابل انهمك النائب الخصوصى فى التصالح مع مجرمى النظام الساقط. وأخيراً خرج علينا ببدعة التأكيد على حق المواطن فى الإمساك بالمتلبسين بجناية. ولا ننسى أن النائب الخصوصى بدأ عهده بمنح الضبطية القضائية لرجال القوات المسلحة بعد أن كانت قد أُلغيت بحكم قضائى. وفى أحدث سقطاته، أصدر النائب العام بياناً طالب فيه المواطنين باستخدام المادة 37 من قانون الإجراءات الجنائية بإلقاء القبض على أى مخرّب وتسليمه للشرطة. وعلى الرغم من التراجع والاستمساك بأن حرف النص القانونى هو الإمساك بالمتلبس وتسليمه لمأمور الضبطية القضائية، فقد وقعت الواقعة فعلاً ووقع الضرر بسبب من كانوا جاهزين لاقتناص الفرصة التى أتاحها لهم السيد النائب. حتى لو كانت السلطة مخلصة أو بريئة القصد، وهو ما أستبعده. وحتى إن صح، فالطريق إلى جهنم ممهد بالنوايا الطيبة كما يقال. والادعاء بأن القصد كان مجرد توكيد نص قانونى موجود فعلاً، كلمة حق إما يراد بها باطل وإما ستؤدى إلى مضار جسيمة لا يليق أن يتورط فيها مثل هؤلاء من كبار مسئولى الدولة. فهذا الإعلان ليس إلا دعوة سافرة لمن يمتلكون أسباب العنف لاضطهاد خصومهم الأضعف. وفى البلد أفراد وجهات تتحرق للتجاوز بدعوى المادة 37، والإعلان عن وجودها فى هذه الظروف دعوة سافرة للتجاوز. ويجب ألا ننسى أنه كانت هناك سوابق للتجاوز أهمها مقتل شاب فى السويس لمجرد وقوفه مع خطيبته فى الشارع ولم يجازَ الجناة إلا بأحكام خفيفة يُعاقب بمثلها المتظاهرون. والمضحك المبكى أن من ينفر لحماية الأمن الآن فى أسيوط مثلاً هو من هاجم مقرات الشرطة بأسيوط بالسلاح الآلى فى عصر سبق. فقد دعا عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية عاصم عبدالماجد، إلى التجمُّع فى المساجد لتشكيل لجان شعبية للحماية والانطلاق من المساجد إلى أماكنها. وطافت ما سموه بالشرطة الشعبية شوارع أسيوط فى موكب راكب بالرايات المعدة سلفاً، والصديريات المطبوعة باسم الجماعة الإسلامية، للإعلان عن بدء نشاطها وطلب بعضها من أفراد شرطة أن يتركوا حراستهم للشرطة «الإسلامية»، وألقوا القبض على مواطنين للتحقيق معهم فى مقر الجمعية الشرعية. كما أكد محافظ سوهاج أنه يوافق على مبادرة تشكيل لجان شعبية لحفظ ودعم الأداء الأمنى بسوهاج. وهكذا قد يخضع الصعيد قريباً لشرطة جماعات الإسلام الجهادى العنيف. ولننظر فى بدايات التبعات الخبيثة لبيان السيد النائب ومغزاها. ألقى القبض على الشاهد الوحيد فى قضية مقتل الشهيد جابر (جيكا). وأفاد شهود عيان بأن شخصين، واحداً من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وآخر سلفياً، ألقيا القبض على عضوة ب«التيار الشعبى» لأنها «غير محجبة وماشية تتمايع» بدعوى حقهما فى الضبطية القضائية بموجب قرار النائب العام. واندلعت اشتباكات بالإسكندرية بين مجموعة تنتمى إلى قوى الإسلام السياسى وبين عشرات من أهالى المنطقة، لأن «الإسلاميين» حاولوا تشكيل لجنة أمنية شعبية تقوم بالاطلاع على هويات المارة وتفتيشهم، مما أثار حفيظة عشرات من الأهالى فوقعت اشتباكات. ولحسن الحظ لم تدم إلا دقائق بعد وصول عدد من الشباب، حاملين هراوات وقطعاً حديدية، مما دفع «الإسلاميين» إلى الهروب. إن العنف الناشب عن محاولة البعض التمكُّن عبر تطبيق المادة 37 سيولد لا محالة عنفاً دفاعياً مضاداً، وبذلك يكون السيد النائب -عن قصد أو غفلة- قد دشّن عصر الميليشيات المتحاربة فى مصر. فلعل السيد النائب الخصوصى سعيد بإشعاله فتيل الاحتراب الأهلى، أياً كانت نياته! أما وزير الداخلية، الذى عُيّن بعد أن رأى جماعة الإخوان تطيح بسابقه فى المنصب، فقد كذب عياناً جهاراً عن عدم تسليح قوات الشرطة، بينما إطلاق الشرطة للرصاص على المتظاهرين من الأسلحة الآلية مسجل ومذاع. ولا غرابة أن ثار عليه كثير من رجال الشرطة، مطالبين -وبحق- بإيعاد الشرطة عن حلبة السياسة، والنأى بها عن خدمة فصيل سياسى بعينه. وكرّر السيد الوزير إعلاناته الناضحة بالاعتراف، منكراً أنه يوظّف الشرطة لمصلحة فصيل سياسى. وكم تكررت فى مصر بعد الثورة الإعلانات الكاذبة، من دوائر مختلفة، بالوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية. ولم تكن إلا اعترافاً مشوباً بالإنكار على طريقة «اللى على راسه بطحة» كما يقول أولاد البلد. إن وزارة الداخلية بقيادة هذا الوزير تسهم فى مؤامرة تحجيم الشرطة، حتى لا نقول كسرها، من خلال إجراءات عديدة من أخطرها طلب تسليح أعلى لشركات الأمن الخاصة التى قد تصبح الغطاء الرسمى للميليشيات الأمنية التابعة لفصائل سياسية متطاحنة. وعليهم أن يفهموا أن تكوين فصيل لمثل هذه الميليشيات سيستدعى حتماً تكوين الفصائل المعارضة له لميليشياتها. وهذه هى البداية المُفضية إلى الاحتراب الأهلى، إن لم يكن تقسيم البلد فى النهاية بين مناطق نفوذ لجيوش مصغّرة. إن هذا الرجل بضلوعه فى جريمة الوقيعة بين الشعب والشرطة يهدم ركناً ركيناً من الدولة المدنية يُفترض أن يفخر بالانتماء إليه والحفاظ عليه، وأى ذنب عظيم؟ لقد آن الأوان للشرفاء من أبناء مصر فى الشرطة وقد تكاثفت المؤامرة على جهازهم أن يتجاوزوا حالة الغضب والعصيان لقياداتهم المسيئة، وأن يتحرّكوا إيجابياً، بمؤازرة القوى الوطنية، لتطهير جهاز الشرطة من الشوائب التى علقت به فى ظل عهود الفساد والاستبداد لبناء شرطة مدنية مستقلة تنحصر عقيدتها ومهمتها الرئيسية فى حماية أمن المواطن وصيانة حقوقه. وربما يكون السبيل إلى ذلك هو إنشاءهم نقابة مستقلة تسعى لهذا الغرض النبيل. ومن الضرورى الإسراع فى هذه المهمة الوطنية بسبب السعى الحثيث لجماعة الإخوان إلى تغيير القيادات الرئيسية لوزارة الداخلية، بدءاً من الوزير، ليشغلها مناصريهم أو من يقبلون بخدمتهم فى مشروعهم للتمكّن من السلطة. فى النهاية، وزير أوقاف الإخوان المتأسلمين، بدلاً من أن يكون كما يأمر الدين الحنيف داعية رحمة ومودة، طالب الناس من على منبر الأزهر بحماية المنشآت والتصدى بأنفسهم للمخربين الذين لا نعلم من هم، ولا تقل لنا السلطة الحاكمة من هم، استمراراً لسياسة سابقتها فى الحكم التسلّطى المعتم. الحملة إذن تبدو منسّقة ومتكاملة بما ينفى عنها الصدفة السيئة. فليست المسألة إذن خطأ غير مقصود من النائب الخصوصى، ولكن سياسة متكاملة يلعب فيها أعضاء من إدارة محمد مرسى، وجماعة الإخوان المتأسلمين ومجمل تيار الإسلام السياسى من ورائه، أدواراً تتضافر لنفخ نيران الاحتراب الأهلى من خلال تمكين ميليشيات الإسلام السياسى من تقنين وجودها على الساحة. ولا ندرى من ينصحهم بكل هذه البلايا، ولكنه -أياً من كان- لا يضمر الخير لمصر أو أهلها. محمد حسنى مبارك كان يقول فى نهايات عهده «إما أنا أو الفوضى»، وقد كان على حق، إلا أنه هو من خطط للفوضى خلال حكمه بواسطة وزير داخليته، كما أسهم فى استمرارها وتفاقمها من خلال تدشينه للحكم العسكرى التسلطى. ومثله حكم سلطة الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المخادعين يضعون شعب مصر الآن بين خيارى بقائهم فى السلطة أو الزج بمصر فى أتون حرب أهلية قد تنتهى بتدميرها وتقسيمها كما فعلت سلطة الإسلام السياسى الفاشلة فى السودان الشقيق. وهم أيضاً كالنظام الساقط يسهمون فى نفخ نيران الاحتراب الأهلى من خلال أدواتهم فى السلطة التنفيذية وحلفائهم فى تيار الإسلام السياسى. ولن يغفر لهم الشعب ولن يتسامح معهم التاريخ.