فى الدقائق الأخيرة من رائعة المخرج البريطانى توم هوبر الموسيقية «البؤساء» التى أعدها ويليام نيكلسون وهربرت كريتزمر عن رواية فيكتور هوجو الشهيرة، وكتب موسيقاها ولحن أغانيها المبدعان ألين بوبليل وكلود ميشيل شونبرج.. تستيقظ أرواح أبناء الثورة الذين اغتالتهم بنادق ومدافع كلاب السلطة.. تتألق صُوَرُهم -بإضاءة مشرقة- على الشاشة، مع موسيقى مترعة بالحماس والبهجة، يحملون أعلام الثورة المغدورة، ويرددون نشيد الأمل ويبشرون بالمستقبل، بكلمات مفعمة بالتفاؤل، رغم الهزيمة.. «بؤس الأرض يشعل لهيباً لا ينطفئ.. حتى أحلك الليالى ستنتهى.. وتشرق الشمس».. تصْدَح أرواح الرجال والنساء والشباب والأطفال الذين دفعوا حياتهم ثمنا لمحاولة جسور لاستعادة الثورة.. تتعالى أصواتهم قوية هادرة تؤكد حتمية الانتصار «هل تسمع غناء الشعب؟». هُزِمت ثورة الجياع من الفقراء والمهمشين والمطحونين تحت سنابك الفاقة والحاجة، وقانون ظالم أعمى، وسلطة دموية متوحشة، حين خرجوا يطالبون بالعيش والحرية والعدالة والكرامة.. كان ذلك فى فرنسا عام 1832 بعد أن اندثرت ثورتها التى اندلعت فى 14 يوليو 1789 وانطفأ لهيبها وغابت رايات «الحرية والإخاء والمساواة» وعاد الشعب يعانى من الظلم والقهر والاستبداد وغياب العدالة وتعنّت قانون حَكَم على «چان فالچان» المواطن الفقير بالسجن خمس سنوات لضبطه متلبساً بسرقة رغيف يسد به رمق ابنة شقيقته، زادتها محاولات هروبه إلى تسعة عشر عاماً، خرج بعدها بعفو مشروط يظل بموجبه مراقباً من الشرطة ومطارداً من الضابط «جاڤيير» حارسه القديم فى السجن الذى ظل يلاحقه من مكان إلى آخر مهدداً رغبته فى حياة حرة شريفة سعى إليها وحققها حتى صار عمدة مدينة وامتلك مصنعاً عملت به «ڤانتين» التى تآمر عليها زملاؤها وطردوها لتضطر إلى أن تبيع نفسها بعد أن باعت شعرها وأسنانها كى توفر عشرة فرنكات ثمناً لدواء ابنتها «كوزيت» لكنها تموت بين يدى فالجان بعد أن توصيه بابنتها التى ترافقه حتى وفاته. عند هوجو/ هوبر هناك منطقان يحكمان حركة الأحداث والشخصيات فى عمل تكاملت فيه عناصر الميلودراما، منطق يتجسد فى شخصية چان فالچان، يكرِّس فكرة أن الرحمة فوق العدل، وينحاز إلى قيم الحب والخير والوفاء والعطف واحترام إنسانية الإنسان، فى مقابل منطق متعنت غشوم يتمثل فى الضابط چافيير الذى يرى أن الشر كامن فى أعماق البشر وأن القانون وحده كفيل باستئصاله، ولا مجال للرحمة فسيف القانون بنصوصه الباترة، يحمى المجتمع.. فى لوحة رائعة تتآلف فيها كل عناصر العمل السينمائى من تصوير لدانى كوهن ومونتاج لكريس ديكنز وميلانى أوليڤر، مع الموسيقى والغناء وبراعة الأداء، يطرح كل منهما وجهة نظره، يتمازج الصوتان.. يعلو أحدهما ويتراجع الآخر ليعود عاليا بينما يخفت نظيره.. تجسد الموسيقى ذلك الصراع صعودا وهبوطا.. تتدافع الكلمات وتتوهج الألحان، لتكشف عن صلابة الرأى وسلامة الرؤية عند فالچان وعن تصلّبٍ وخللٍ فى الرأى والرؤية عند چاڤيير! لوحةٌ من لوحات عديدة احتشد بها الفيلم على مدى أكثر من ساعتين ونصف فى بناء درامى تلعب فيه الموسيقى والغناء دوراً أساسياً مع الأداء التمثيلى المتميز خاصة هيو جاكمان (چان فالچان) وراسيل كرو (چافيير).. كما أضفت آن هاثاواى (فانتين) ألقاً ورونقاً على تلك الدقائق القليلة التى أطلّت فيها على الشاشة، بفهمها العميق للشخصية بما تستشعره من قهر وهوان وإذلال فاستحقت عن جدارة جائزة أوسكار أحسن ممثلة مساعدة. «البؤساء» تحفة سينمائية تناغمت عناصرها لتبدع بناء موسيقياً يقارب السيمفونيات الكلاسيكية، تلعب فيه الشخصيات دور الآلات فى هارمونية آسرة تجعل العين تسمع والأذن ترى، تُعلى من قيمة الحب، وتنتصر للثورة، وتُؤكد أن غداً أفضل قادم.. وحتماً -كما علّمنا التاريخ- سوف يأتى الغد.