كان قرار «جبهة الإنقاذ الوطنى» بالإجماع على مقاطعة انتخابات مجلس النواب ترشيحاً وانتخاباً قراراً وطنياً بالدرجة الأولى يتماشى مع المزاج الوطنى العام الرافض لمجمل سياسات الحكم الإخوانى، والمستمر فى التظاهر والاعتصام ضد ممارسات الرئاسة وجماعتها وحزبها منذ الاحتفالات بالذكرى الثانية للثورة وحتى يومنا. وجاء قرار المقاطعة فى وقت تصاعدت فيه وتيرة الرفض الشعبى وتعالت دعوات العصيان المدنى فى بورسعيد، وتبعتها الإسماعيلية، وشاركتهما كثير من محافظات مصر الثائرة والمطالبة باسترداد ثورتها والتخلص ممن ركبوا الموجة وجهروا بأهدافهم الحقيقية فى الاستيلاء على مفاصل الدولة وتمكين جماعتهم من احتلال كل المواقع القيادية فى الدولة والمضى قُدماً فى مجال «أخونة» الدولة. وكانت «جبهة الإنقاذ الوطنى» قد رفضت، وما تزال، دعوات الحوار التى دعا إليها رئيس الجمهورية لمناقشة قضايا انفرد سيادته باتخاذ قرارات فيها من دون إشراك القوى السياسية والأحزاب الوطنية، ومنها أحزاب «جبهة الإنقاذ الوطنى»، لا سيما وقد كانت قرارات الدكتور مرسى فى تلك القضايا صادمة لكل القوى الوطنية ومناقضة لوعوده وتعهداته ومجافية لرغبة الشعب فى تفعيل «تحول ديمقراطى» حقيقى يستند إلى ممارسة سياسية ناضجة ترتفع إلى مستوى تطلعات الشعب وآماله فى تحقيق أهداف الثورة التى تم إجهاضها بواسطة الحكم الجديد. وهذا الموقف الوطنى يمثل إعلاناً بميلاد جديد ل«جبهة الإنقاذ الوطنى» التى تكونت فى أثناء الثورة على الإعلانات «غير الدستورية» التى أعلنها رئيس الجمهورية فى الحادى والعشرين من نوفمبر 2012، وهو الإعلان الذى أنشأ ظروفاً لم تكن تقل خطورة ولا تهديداً لوحدة الشعب ولمسيرة الديمقراطية وسيادة القانون عما تواجهه الجماهير المصرية الآن. ففى تلك الظروف التى شقت الشعب المصرى وعطلت سيادة القانون وأُهينت فيها سلطة القضاء وتم الاعتداء على استقلال القضاء بواسطة السلطة التنفيذية التى حصل عليها لنفسه رئيس الجمهورية انتفض الشعب بأسره ومعه الكيان السياسى الوليد «جبهة الإنقاذ الوطنى» لرفض هذه الصورة المبكرة من الديكتاتورية لأول رئيس منتخب الذى تروّج جماعته وحزبه لمقولة احترام «الصندوق». ومنذ تكوينها فى أثناء الغضبة الشعبية على إعلانات نوفمبر «غير الدستورية» وحتى قرارها بمقاطعة الانتخابات يوم 26 فبراير، فإن «جبهة الإنقاذ الوطنى» لم تستطع التواصل الفعّال مع جماهير الشعب الثائرة والمحتشدة فى ميدان التحرير ومحيط «الاتحادية» وغيرها من مواقع الاعتصام والتظاهر الشعبى الغاضب. كما اهتزت مواقف أطراف عدة من بين أعضاء الجبهة واختلفت فى اتخاذ قرار حاسم فى شأن المشاركة فى الاستفتاء على الدستور المعيب الذى رفضه كل أعضائها، وكان قرار الجبهة بالمشاركة فى الاستفتاء مدعاة لغضب جماهير الثورة وفقدانها لمصداقيتها بينهم! وتعود المشكلة الأساسية فى تكوين «جبهة الإنقاذ الوطنى» إلى غياب عنصر المؤسسية فى ذلك الكيان الذى نشأ استجابة لموقف فرض نفسه على أحزاب وقوى سياسية متفرقة ومختلفة الرؤى والأهداف. فكانت النشأة الأولى للجبهة من نوع رد الفعل التلقائى وليس الفعل المقصود والمخطط، فتأثرت الجبهة بكل التناقضات التى تعانى منها الأحزاب والقوى السياسية التى انضمت إلى عضويتها. وعلى سبيل المثال، ضمت الجبهة مرشحيْن فى انتخابات رئاسة الجمهورية كانا من المفترض أن يمثلا التيار المدافع عن الدولة المدنية، وكان التعاون والتنسيق بينهما، لو تم خلال جولة الانتخابات الأولى، جديراً بأن يقدم لمصر رئيساً للجمهورية ينتمى إلى دولة المواطنة وسيادة القانون يبعد عنها ممارسات «الأخونة» و«التمكين» والتهديد بالميليشيات وأفكار «القطبيين» المحبذة للتكفير وشق الصف الوطنى. ولكن هذا التنسيق لم يتم! كذلك لم تفلح الأحزاب والقوى السياسية المكوّنة للجبهة فى التنسيق فيما بينها فى انتخابات مجلس الشعب «المنحل» فى 2011 خاصة فى الجولة الثانية منها، وتركت أكثرية مقاعد المجلس لقمة سائغة لحزبى الحرية والعدالة والنور وهما من المعادين للدولة المدنية والمؤيدين لقيام دولة دينية على خلاف أغلبية المصريين المسلمين والمسيحيين الذين يؤمنون بالوسطية وأن «الدين لله والوطن للجميع». كما فشل أعضاء «جبهة الإنقاذ الوطنى» قبل تشكيلها فى اتخاذ موقف موحد بالنسبة للتشكيل المعيب للجمعية التأسيسية للدستور التى شارك فيها، بل وساهم فى تيسير قيامها المعيب بالتعاون مع حزب الحرية والعدالة وحزب النور وكان من المعارضين للانسحاب من تلك الجمعية المرفوضة شعبياً والمطعون عليها أمام القضاء، أعضاء انضموا للجبهة وأصبحوا من قياداتها ورموزها. ولكن الموقف الجديد للجبهة ورفضها المشاركة فى الانتخابات وإصرارها على المطالبة بضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات وفى مقدمتها تغيير الحكومة الحالية وتشكيل حكومة وطنية تدير العملية الانتخابية بنزاهة وحياد فى ظل قانون للانتخابات يحظى بالتوافق المجتمعى ولا تهدده شبهة عدم الدستورية، ذلك الموقف نال تقدير الأغلبية الرافضة للانتخابات القادمة وحقق لها استعادة مصداقيتها بين جماهير الثورة، وأصبحت «جبهة الإنقاذ الوطنى» مؤهلة لتحمل مسئولية تاريخية بأن تقود المعارضة الوطنية فى التحول الديمقراطى إذا تمكنت من الخروج من الانحصار فى الدائرة المغلقة لشخصيات قياداتها ورموزها ورؤى أعضائها المتعارضة فى كثير من المواقف، والتحول إلى كيان سياسى يتصف ب«المؤسسية» ويمارس دوره فى التخطيط السياسى الاستراتيجى والمعارضة الوطنية الإيجابية بما يتجاوز الاهتمامات الحزبية الضيقة والانتقال بالجبهة من صيغة الكيان المؤقت الذى نشأ كرد فعل لأحداث مريرة ومرفوضة شعبياً وتحويله إلى مؤسسة سياسية دائمة للمعارضة الوطنية تستكمل إمكاناتها البشرية وتتكامل قدراتها المادية بتعاون جميع أعضائها الحاليين والمحتملين لتكون إعادة للتجربة المصرية الفريدة التى تأسس حزب الوفد خلالها من رحم ثورة 1919 بالزعامة التاريخية لسعد زغلول! وبقدر علمى، فإن التوجه المؤسسى كان مطروحاً فى اجتماعات سابقة للجبهة، ولكن الظروف المستجدة بعد قرار مقاطعة الانتخابات تحتم الإسراع بإعلان قيامها ككيان مؤسسى متكامل قادر على التأثير فى المشهد السياسى للدفاع عن «الدولة المدنية» دولة المواطنة وسيادة القانون، وكيان قوى للمعارضة الإيجابية للتعبير عن المطالب الوطنية والدفاع عن المستقبل المصرى واستعادة دور مصر الرائد على المستويات العربية والإقليمية والعالمية. من ناحية أخرى، فإن «جبهة الإنقاذ الوطنى» فى إطارها المؤسسى ستكون قوة فاعلة فى العمل على تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، والتكامل والتنسيق مع كافة القوى والتيارات الشبابية والحزبية والمجتمعية المدافعة عن الثورة والعاملة على تحقيق أهدافها وإسقاط النظام السابق بكل رموزه ومؤسساته وسياساته وممارساته، وما تبقى من آثاره وممارساته حتى الآن، والتصدى لسلبيات الرئاسة الحالية وتوجهاتها نحو الافتئات على قيم وأهداف الدولة المدنية وسيادة القانون والعدوان على السلطة القضائية واستلاب استقلال القضاء، والتواصل مع جميع الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية، والعمل على ضم الجهود وتنسيق الفعاليات فى متابعة ممارسات الحكومة وإبداء رأى قوى المعارضة بشأنها وطرح البدائل المتفقة مع الأهداف الوطنية. كذلك يصبح واجباً على الجبهة مقاومة توجه مجلس الشورى إلى التوسع فى ممارسة سلطة التشريع ومراقبة ما يصدر عن ذلك المجلس من تشريعات وفى المقدمة منها أى توجهات تتعلق بفرض حالة الطوارئ بأى صورة كانت، وعدم تمرير أى قوانين مقيدة للحريات أو تمس استقلال القضاء بكل درجاته، أو تصب فى مصلحة الفصيل الحاكم دون اعتبار للمصالح الوطنية. ولا تعنى مقاطعة الجبهة للانتخابات انصرافها عن العمل مع الجماهير، بل على العكس من ذلك، فإن الجبهة مطالبة بتنسيق قدرات وإمكانيات أعضائها ودفع القوى الوطنية عامة إلى الاستعداد لخوض الانتخابات التشريعية والمحلية والرئاسية وتحقيق نتائج مؤثرة، والكفاح من أجل تهيئة المناخ السياسى والتشريعى لممارسة الشعب حقوقه السياسية وواجباته الانتخابية بحرية فى إطار ديمقراطى. ولتحقيق التطوير المؤسسى لجبهة الإنقاذ الوطنى يُقترح تشكيل مجلس رئاسى منتخب من قيادات الجبهة يختص بوضع السياسات العامة والإشراف على تنفيذها وتوجيه فعالياتها وتنسيق مواقفها فى القضايا الوطنية. كما يتوجب على «جبهة الإنقاذ الوطنى» المسارعة بتشكيل حكومة وطنية موازية وانتخاب مجلس تشريعى موازٍ، وفى الأساس تشكيل جمعية تأسيسية شعبية لكتابة دستور حقيقى يكون جديراً بشعب مصر وثورتها المجيدة. وعاشت مصر الثورة.