للمواطنات والمواطنين، وبجانب بحثهم المشروع عن حقوقهم وحرياتهم وعن ظروف معيشية تحترم كرامتهم الإنسانية وتسمح لهم بالترقى والتطور، رغبة دائمة فى المشاركة فى إدارة الشأن العام والسياسى. وحين تتوفر الآليات والأدوات الديمقراطية كصندوق الانتخابات والبرلمان المنتخب والسلطة التنفيذية المنتخبة وتتسم بالنزاهة والشفافية، ينزع المواطن للمشاركة بها بهدف التأثير فى صناعة وصناع القرارات المعنية بالشأن العام والسياسى. وحين تغيب هذه الآليات والأدوات الديمقراطية وتتسلط نخبة أو جماعة حاكمة، يسعى المواطن للتعبير عن رفضه عبر طرق الاحتجاج المختلفة، وينشط خارج إطار السياسة الرسمية. أما أكثر الأوضاع صعوبة على المواطنات والمواطنين، إن تقييماً أو تعاملاً، فتتمثل فى حضور آليات وأدوات ظاهرها الديمقراطية وجوهرها بعيد عن النزاهة والشفافية وفاقد من ثَم للشرعية؛ انتخابات ظاهرها التعددية والمنافسة، وجوهرها القواعد غير العادلة وتزوير إرادة الناخب، برلمان به أغلبية وأقلية وبيئة فعل تبدو تنافسية، بينما الحقيقة هى هيمنة الأغلبية الحاكمة واختزال الأقلية المعارضة إلى ديكور، قوانين تدعى حماية حقوق الإنسان وحريات المواطن، والواقع به توثيق لانتهاكات لا تتوقف للحقوق وللحريات وإفلات من العقاب يتكرر. فى مثل هذه الأوضاع، ومصر بها الآن، تسيطر الحيرة على المواطنات والمواطنين ويرتفع منسوب التردد ويصبح السؤال الجوهرى وثيق الارتباط بجدل المشاركة والمقاطعة. وهذا هو حالنا؛ أسر منقسمة بين مشاركين ومقاطعين، رأى عام يتساءل عن جدوى المشاركة مع قواعد غير عادلة وكذلك عن جدوى المقاطعة وفاعليتها، تفضيلات للمواطن تتغير بحساب الدقائق والساعات وليس الأيام أو الأسابيع، تأرجح مستمر مصحوب بخوف على مصير العباد والبلاد. فى مثل هذه الأوضاع، تصبح مسئولية السياسى، بكونه باحثاً عن الصالح العام ومغلباً له على المصالح الضيقة (شخصية أو حزبية)، هى توجيه المواطنات والمواطنين للإفصاح عن قناعاته وآرائه وإعلان اختياره إن بالمشاركة فى آليات وأدوات ظاهرها الديمقراطية كالانتخابات والبرلمان والسلطة التنفيذية المنتخبة، والسعى لإصلاحها من الداخل أو المقاطعة لغياب الجوهر الديمقراطى والعمل من خارج السياسة الرسمية بسلمية لتغيير قواعد الانتخابات والبرلمان والسلطة التنفيذية. على السياسى الإفصاح عن قناعاته دون ادعاء لاحتكار الصواب الكامل ودون تخوين أو مزايدة للمختلفين معه، فالمشاركة أو المقاطعة هما فى نهاية المطاف اجتهادان مشروعان ولا علم لأحد اليوم بنتائجهما. فى مثل هذه الأوضاع التى يسيطر فيها الانقسام على المجتمع، تصبح مسئولية السياسى، وهو بحكم التكوين والاهتمام يبحث عن القبول الشعبى الواسع وثقة الناس، أن يخاطر باتخاذ موقف باتجاه المشاركة أو المقاطعة، وهو يعلم أن الرأى العام منقسم وأن تفضيلات المواطن تتأرجح وأن الراغب فى المشاركة اليوم قد ينقم عليها غدا وأن مناصر المقاطعة الآن قد يعود ويرى فى المشاركة الحل السحرى وفى من شارك ممثله الحقيقى (وقد مررنا بكل هذا، نحن من قاطعوا الجمعية التأسيسية للدستور الأولى والثانية، وتقلبت مواقف وتفضيلات الرأى العام إزاءنا وبشدة). ومخاطرة السياسى هنا هى مخاطرة مدفوعة بالضمير والاتساق والتقدير الواضح للأوضاع، والسعى إلى المصلحة الوطنية والصالح العام مجددا دون احتكار الصواب الكامل. المخاطرة هنا هى ضد نزوع السياسى الفطرى للبقاء فى المساحات الرمادية والأرض الوسيطة، والاحتفاظ قدر الإمكان بتأييد قطاعات شعبية واسعة. المخاطرة هنا موتورها الصدق والرغبة فى مخاطبة الرأى العام بصراحة وتحمل المسئولية. وقد مهدت بمقالة الأمس، وفى مداخلات إعلامية متنوعة، لمخاطرتى الذاتية وحسمى لوجهتى فى الجدل الدائر بشأن الانتخابات البرلمانية القادمة والموقف منها مشاركة أو مقاطعة. وها هى مخاطرتى؛ قواعد العملية السياسية غير عادلة وآلياتها وأدواتها ظاهرها الديمقراطية وجوهرها غياب النزاهة والشفافية وانتهاكات متكررة لحقوق الإنسان، لست بمقتنع بإمكانية تعديل القواعد هذه عبر المشاركة الآن فى الانتخابات والبرلمان، أحسب أن استراتيجية المعارضة الأكثر نجاعة وفاعلية هى المقاطعة وتطوير بديل سلمى متكامل من خارج السياسة الرسمية، لذا أنا مع مقاطعة الانتخابات وصياغة القرار هذا بإيجابية (حملة لمقاطعة الانتخابات، وليس إعلان المقاطعة والبقاء فى المنازل)، والعمل على تغيير القواعد غير العادلة دون التورط فيها.