كثيرًا ما كان يقول الفيلسوف بيتر ميليكان: «حتى إذا ظهر أن الفكرة فارغة، فإن مجرد تعوُّدِك على إبداع أفكار جنونية سيجعلك تصل، في نقطة ما، إلى أن تفكر بشيء، في البداية قد يبدو بلا قيمة، ولكن بعد فترة سيظهر أنه ليس جنونًا على الإطلاق». كان إيلون ماسك يبدو معتوهًا تمامًا، وهو يشرح نظريته في مؤتمر «Recode's annual code» أمام لفيف من العلماء والمفكرين، تنحنح قليلًا، ثم قال: «إن الاحتمال الأكبر هو أننا لا نعيش في عالم حقيقي على الإطلاق!!!» وكأنما ألقى قنبلة؛ تزايدت الهمهمات في أرجاء القاعة، فأكمل دون توقف: «أكاد أجزم بأننا مجرد كيانات حاسوبية تعيش ضمن لعبة فيديو لدى حضارة أكثر تقدمًا». نظر إلى تعبيرات الوجوه الساخرة من حوله قائلًا: «ألا تصدقون؟ إن أقوى برهان على أننا نعيش ضمن محاكاة حاسوبية هو أننا قبل أربعين سنة كنا نلعب لعبة (Pong) مع نقطة ومستطيلين. هكذا كانت ألعاب الفيديو آنذاك. أما الآن، أصبحت لدينا ألعاب واقعية ومحاكاة ثلاثية الأبعاد وملايين الأشخاص يلعبون في آن معًا، وتزداد المحاكاة تطورًا عامًا بعد آخر، وقريبًا سيكون لدينا واقع افتراضي؛ واقع معزز حاسوبيًا، أي ألعاب يتماهى فيها الخيال مع الواقع إلى الحد الذي يجعلهما شيئًا واحدًا (هذا ما يتفق معه تمامًا علماء الذكاء الاصطناعي)، فما يدرينا أننا الآن لسنا شخصيات افتراضية في لعبة مُصممة بدقة كبيرة»؟! وكانت تلك بداية الأزمة!! في منتدى عُقد بعد المؤتمر بعدة أسابيع طرحت زهرة دافودي "العالمة الكبيرة في معهد ماستشوستس للتقنية"، فكرة مفادها أنه يمكننا الاستدلال على طبيعة الكون الذي نعيشه من خلال اختبار الطاقات بين الأشعة الكونية التي تضرب الأرض، ومن دراستها نستطيع أن نرصد حركة الزمكان؛ إن كان مستمرًا أم ثابتًا، وبناء عليه نستطيع أن نفرِّق بين كوننا جزءًا من لعبة أو أننا نشأنا هكذا.. وتوصلت في نهاية بحثها العميق إلى أنه لا يمكن بحال إثبات أننا لسنا جزءًا من لعبة محاكاة!. بعدها قال بيل جيتس فيما يُشبِه حسم الموضوع: «لن نحصل على دليل على أننا لسنا في محاكاة، ببساطة لأن أي دليل نصل إليه قد يكون جزءًا من هذه المحاكاة». يجعل هذا من الصورة التي رسمها مُخْرِجا «ماتريكس»، و«أفاتار»، خيالاً علميًّا غير فانتازي، بمعنى أنه قادر على التطابق مع ما يُفترض أنه الواقع المعيش.. وربما تكون الصورة الأقرب في فيلم «The Truman show» الذي أُنتج 1998، بطولة جيم كاري، الفتى المدلل الذي يشعر بأن حياته تسير في إطار غير طبيعي، ويكتشف في النهاية أنه جزء من برنامج واقعي يشاهده الملايين في أميركا، وأن حياته التي اعتادها عبارة عن استوديو لمسلسل تلفزيوني لا أكثر!. لذلك كان رأي إيلون دائمًا أن «هنالك فرصة ضئيلة تُقَدَّر بواحد على عدة مليارات بأننا نعيش في واقع حقيقي!!». في إجابته تلك، يذكّرنا إيلون بفكرة الفيلسوف «نيك بوستروم» (Nick Bostrom) التي جاءت في ورقة بحثية بعنوان «هل أنت في محاكاة حاسوبية؟»، وفيها جاء: «قد تقوم الأجيال المقبلة باستخدام حواسيبها الخارقة لإجراء عمليات محاكاة تفصيلية لأسلافها أو أشخاص شبيهين بهم. لأن تلك الحواسيب سوف تكون خارقة لدرجة تمكّنهم من إجراء عدد ضخم من مثل هذه المحاكيات. الآن، لنفترض أن هؤلاء الأشخاص الذين تمت محاكاتهم يتمتعون بالوعي، عندها سوف تكون الغالبية الساحقة من العقول شبيهة بعقولنا ولا تنتمي للسلالة الأصلية بل تنتمي لأشخاص جدد عندها سيكون ممكنًا أن نبرهن، في حال صح ذلك، أنه من المنطقي افتراض أننا على الأرجح من ضمن العقول التي تمت محاكاتها، ولسنا من ضمن العقول البيولوجية الأصلية (التي اخترعت البرنامج). فإذا لم نتقبّل فكرة أننا نعيش حاليًا ضمن محاكاة حاسوبية، فكيف إذًا نرجّح بأننا سننتج أحفادًا قادرين على إجراء محاكيات لأسلافهم (كما يتوقع جميع العلماء)! تلك هي الفكرة الأساسية. طرح بعض العلماء أسبابًا أخرى تدفعنا للاعتقاد بأننا افتراضيون، فعلى سبيل المثال، كلما ازدادت معرفتنا عن الكون، بدا لنا استناده إلى قوانين رياضية دقيقة جدًا. يقول ماكس تيجمارك (عالم الكونيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا): «إذا كنتُ شخصية في لعبة كمبيوتر، كنتُ سأكتشف في نهاية المطاف أن القواعد تبدو صارمة ورياضية للغاية»، وأضاف: «وأن هذا يعكس كود الكمبيوتر الذي صُنعت به اللعبة». أما تايسون، "نيل ديغراس تايسون عالم أمريكي مختص بالفيزياء الفلكية، كاتب ومقدم للعديد من البرامج التلفزيونية"، يقول في هذا الصدد: «نحن لا نعتبر أنفسنا آلهة عندما نبرمج لعبة (ماريو)، رغم أننا نتحكم في مدى ارتفاع قفزاته». ويضيف: «لا سبب للاعتقاد أن هذه الكائنات في غاية القوة لمجرد أنها تتحكم في كل ما نفعل». بالإضافة إلى ذلك، تستدعي فكرة محاكاة الكمبيوتر للكون فكرة أخرى مُقلقة. فكما يقول تايسون: «ماذا يحدث إذا ظهر خطأ برمجي أدى إلى انهيار البرنامج بأكمله؟». عقل في وعاء يأتي دور الفلسفة التي سبقت هذه التخيلات ببعض الوقت، حين عَرَضَتْ ما سَمَّتْه «عقل في وعاء»، وهي متناقضة للفيلسوف الأمريكي هيلاري بوتنام قدّمها في كتابه «السبب والحقيقة والتاريخ» (Reason, Truth, and History) سنة 1981. تخيَّلْ أنك تعرضت لعملية جراحية، لعالِم شرير قرَّر أن يَفْصِلَ مُخَّك عن جسمك ويخزِّنه في وعاء طافٍ على سوائل مغذية لخلايا المخ وفيتامينات للحفاظ عليه. وتصوَّرْ أن أطراف الخلايا العصبية في مخك تتصل بكمبيوتر عملاق Super Computer يمد المخ بموجات كهربائية ونبضات إلكترونية مشابهة للموجات الطبيعية التي يفرزها جهازك العصبي في الأحوال الطبيعية. الكمبيوتر العملاق وظيفته تكوين عالم افتراضي محاكٍ للواقع، يوهم مخك في الوعاء بأن كل شيء طبيعي في العالم الافتراضي مثل الواقع بالضبط.. فهناك ناس، وطرق، وتاريخ، ومشاعر، وأفكار! لكن في الحقيقة التجربة التي يعيشها مخك مجرد موجات إلكترونية الكمبيوتر يرسلها عن طريق الأعصاب الموصَّلة به!. ضع يدك على رأسك، وانظر لنفسك في المرآة، السؤال: هل أنت فعلا نفسك؟ أم مخُّك فعلًا في رأسك؟ أم أنت مجرد «مخ في وعاء»؟ هل يمكنك أن تجزم بذلك؟ ولماذا؟! لا خير في فكرة إن لم تكن في البدء جنونًا خالصًا، تصور عالمًا يجلس في القرن الرابع عشر وهو يشرح للمجتمعين، أن ثمة قنبلة قادرة على محو المدن، وأن الطائرات الأثقل من الهواء سيجري السفر عبرها بيسر، وأننا سنصعد إلى القمر، ونبني ناطحات سحاب، وتصل إلينا المياه في أنابيب، ونشاهد بثًّا تلفزيونيًّا طيلة اليوم، ونتواصل مع أي شخص في الكون متى شئنا.. ألن يبدو ذلك ضربًا من الجنون؟! - أتقول إن فكرة كوننا جزءًا من آلة صحيحة؟! * لم أقل ذلك؟! - ألا تعرف أن ذلك يتعارض مع... * لم أقل ذلك، فقف عند هذه المحطة! - ماذا تريد أن تقول إذًا؟! * أريد أن أقول: وسَّعوا أدمغتكم، وتقبلوا الطروحات الغريبة والشاذة، لا تؤمنوا بها، لا أطالبكم بذلك.. أنا نفسي أتخير وانتقى.. لكن دعوا عقولكم مفتوحة على تحمُّلها والسماع لها دون تخطئتها أو تصويبها، عَوِّدُوا أنفسكم أن لا تتعجبوا من غريب، وألا تنبهروا انبهارًا زائدًا بأي شيء، وأن تجعلوا مجال احتمالاتكم أوسع. هكذا نتقبل آراءنا جميعًا، ونتعايش رغم الاختلاف الذي سيحدث لا محالة!!. (ماشي)؟!