أسوأ إحساس يمكنك أن تشعر به هو إحساسك بفقدان أعز وأغلى شخص فى حياتك، والأسوأ هو يقينك منذ صغرك أن فقدانك لهذا الشخص سيكون حتماً فى أى لحظة، فما بالك أن يكون هذا الشخص هو أمك؟ أتذكر طفولتى البائسة عندما علمت أن أمى مريضة بالقلب، كنت وقتها ما زلت فى الصف الثالث الابتدائى وانتابتنى حالة رعب من فقدانها لأننى كنت على يقين من أنها ستموت قريباً. وعندما لاحظ خالى حبى الشديد لأمى وتعلقى بها وقلقى الذى أثار الانتباه إلى أننى سأفقدها قرر أن ينتشلنى من هذا الرعب الذى أعيشه فهمس إلى أذنى قائلاً: «بوسى رجل امك كل يوم وعمرها هيزيد»، وصدقته، فقد كنت طفلة بريئة ساذجة لا أعلم أن لكل أجل كتاب، وأصبح تقبيل قدم أمى عادة لا أقطعها. عندما كنت أسمع جرس المدرسة يرن فى نهاية اليوم الدراسى كنت أذهب مهرولة إلى المنزل، وإذا رأيت المحلات التى تجاور منزلنا مغلقة يصيبنى الهلع لعل يكون هناك مكروه أصاب أمى، وأن أصحاب تلك المحال أغلقوها لمؤازرتنا «فهذا هو المعتاد فى الفلاحين»، فأخاف أن أدخل المنزل لعل إحساسى يكون صحيحاً، وعندما أتجرأ وأدخله وأجد أمى أمامى بابتسامتها المعهودة التى لا تفارق وجهها تُبعث إلىّ روحى من جديد.. أحياناً كنت أستيقظ من النوم على صوت أنين ألمها الذى كانت تحاول أن تخفيه، وكنت أحاول أن أخفف عنها، وأحياناً ألجأ إلى الكذب عليها وأتمارض أمامها لعلها تنسى لبعض الوقت الألم الذى تشعر به عندما تنشغل بمرضى. فأمى كانت، وما زالت، نبع حنانى وحبى، أشتاق إليها دوماً، وأكون فى قمة سعادتى عندما ينادينى من حولى ب«يا ابنة الغالية»، لأنها حقاً كانت غالية. عندما ماتت أمى وأنا فى سن صغيرة لم أكن بلغت ال14عاماً أحسست أن الله غاضب منى لذلك انتقم منى وأخذها، ومن شدة انتقامه جعلها تموت بين يدىّ وهى فى حضنى، وأكون أنا آخر من يراها وتراه قبل أن تلقى وجهه الكريم، وعندما ماتت نزلت على أقدامها أقبلها لعلها تعود للحياة مرة أخرى. 14 عاماً مرّت على وفاتها وما زال قلبى يتقطع ألماً وشوقاً. أنام كل ليلة أدعو الله أن أراها فى أحلامى وأحياناً كثيرة يستجيب، فهو الحنّان المنّان الذى هو أحن علىّ من أمى التى فقدتها. نعم، فقدت أمى التى أنجبتنى، لكن ما زال هناك أم على قيد الحياة لا تموت تستطيع أن تعوضنى عن بعض حنان أمى الذى افتقدته برحيلها، أتحدث عن مصر التى دفنت شجونى فى ثراها، وانطلقت بأشواقى فى سمائها وتمتعت بنهار شمسها وليل قمرها وعشت بها أحلى أيام حياتى، وجدت فيها الكثير الذى يجعلنى أفديها بعمرى وأخشى عليها من كل سوء، حتى استيقظت على كابوس ما يحدث لها من أهوال وفوضى ودمار وخراب وسرقة ونهب ومحسوبية وأمراض كثيرة أصابت جسدها العليل، عاد إلىّ من جديد هذا الشعور المميت بفقدانها، فكلما نظرت إلى هرمها الشامخ أحسست أنه يتحدى الزمن، وأبوالهول أمامه ينظر بعينيه كأنه الحارس الأمين على أبوابها، وهذا نهرها الخالد الذى ذابت فيه الأساطير وأصبحت مصر هبته، وكل من شرب من مائه صار مصرىّ الهوى. رحلت أمى وكلى خوف ورعب أن ترحل مصر أم الدنيا بأيدى أبنائها.. فأنا على أتم استعداد أن أقبّل أقدامكم جميعاً فى سبيل أن ترحموها وترأفوا بحالها، فلم يعد لنا شىء باقٍ لدينا غيرها.