لطالما استغرقت النخب السياسية والفكرية حول العالم فى جدل حامى الوطيس حول دور الدين فى العملية السياسية عموماً وفى العلاقات الدولية على وجه التحديد، وما بين فريق يرى فى نظرية القوة ركيزة أساسية لتلك العلاقات، وتيار يعتقد فى مبدأ المصلحة دافعاً وقصداً لها، وقف نفر ثالث يصر على إبراز دور الدين فى التأثير على مسار التفاعلات بين القوى السياسية داخل الدولة الواحدة، كما على اتجاهات وأنماط العلاقات بين الفاعلين الدوليين بشتى صنوفهم، سواء كانوا دولاً أو منظمات أو حتى شخصيات دولية مؤثرة. وبالنظر إلى اتجاهات العلاقات الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط، ربما لا يجادل كثيرون فى أن الدين يعد أحد أبرز عناصر التقريب والتلاقى بين القوى الإقليمية الرئيسية الثلاث المتمثلة فى مصر وتركيا وإيران، على اعتبار أن ثلاثتها دول مسلمة، ترتبط فيما بينها بوشائج حضارية وثقافية تضرب بجذورها فى عمق التاريخ، كما كان لجميعها إسهام واضح وملموس فى بناء الحضارة الإسلامية وترسيخ دعائمها العقدية والفكرية. غير أن مسحة الخصوصية الثقافية والحضارية التى تميز تجربة كل دولة على حدة، والتى أفرزت تأثيرات عميقة على فهمها للإسلام وتعاطيها معه قد أتاحت بدورها فرصاً لبروز مساحات من التنوع، الذى بلغ حد الاختلاف والتباين فى أحيان كثيرة.وهو الأمر الذى مهد السبيل لتحول الدين من عنصر تقريب إلى عامل تفريق بين القوى الإقليمية الإسلامية الثلاث. فما من شك فى أن الاختلاف المذهبى بين إيران الشيعية وكل من تركيا ومصر السنيتين قد أجج هواجس ومخاوف هائلة لدى المصريين والأتراك، حكومات وشعوباً، حيال ما يمكن أن يسمى بالمد الشيعى، خصوصاً بعد أن آل نظام ولاية الفقيه فى إيران على نفسه منذ اندلاع الثورة الإسلامية فى العام 1979 تبنى مبدأ التشييع وتصدير الثورة إلى دول الجوار العربى والإسلامى. أما على صعيد العلاقات المصرية التركية، فيبدو جلياً أن تلاقى المذاهب الدينية لم يكن كافياً للحيلولة دون بروز بواعث الجفاء وعدم الانسجام، فرغم أن البلدين يتفقان فى المذهب السنى، فإن تركيا الحالية بقيادة حزب الحرية والعدالة تقدم نموذجاً للإسلام الحداثى الليبرالى المعتدل المتصالح مع الغرب والعلمانية والديمقراطية، هذا فى الوقت الذى لا يبدو تيار الإسلام السياسى فى مصر، بمختلف أطيافه من سلفيين وإخوان مسلمين وجهاديين وتكفيريين سابقين، ميالاً بعد لهذا النهج. وهو الأمر الذى ظهر بجلاء إبان زيارة أردوغان قبل الأخيرة للقاهرة والتى أكد خلالها أن حزبه ليس إسلامياً وإنما هو ليبرالى علمانى، مما أدى إلى استياء إسلاميى مصر وتقليصهم من فرط الحفاوة الملفتة التى قابلوا بها الزعيم التركى فى مستهل زيارته، كما تجلى أيضاً فى أجواء البرود التى تخيم على العلاقات بين القاهرةوأنقرة هذه الأيام رغم المبادرات التركية الجذابة والعروض السخية التى لم يسل لها لعاب نظام الرئيس مرسى. خلافاً لذلك، اكتست العلاقات بين تركيا وإيران سمتاً فريداً، فبرغم الصراعات التاريخية بين الدولتين العثمانية السنية والصفوية الشيعية على النفوذ والزعامة والمنافسة الحالية على الأدوار الإقليمية بين طهرانوأنقرة، تسنى للبلدين التوصل إلى صيغة من العيش المشترك وحسن الجوار القائمين على توازن القوى والمصالح فيما بينهما، ولم تحل مخاوف أنقرة من المد الشيعى الإيرانى دون توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين البلدين، حتى أضحت تركيا بمثابة رئة إيران التى تساعدها على الصمود والبقاء تحت وطأة العقوبات الدولية والعزلة الغربية اللتين يكابدهما الإيرانيون منذ سنوات. وإذا كانت المعطيات السابقة تشى بأن التلاقى العقائدى ليس كافياً وحده لضمان تعزيز التعاون بين الدول، فإن بلورة حزمة من المصالح المشتركة بين مصر وإيران على غرار ما فعلت الأخيرة مع تركيا، يبدو الحل الأمثل لتوثيق العلاقات وتعظيم المغانم لثلاثتها، شريطة أن يواكب ذلك مساعٍ جماعية حثيثة لتذويب الخلافات والتنسيق بين الأدوار، فضلاً عن جهود مصرية حثيثة لتقليص الفجوة المتنامية فى موازين القوة بينها وبين كل من إيران وتركيا.