(1) بداية، الكاتب يوقر القضاء وشوامخ القضاة. فلا شك فى أن القضاء، كمؤسسة، مقدس، ولكن القاضى الفرد غير معصوم، هو بشر يصيب ويخطئ، ويُمتحن بالغواية وبالعسف، لا سيما بسيف المعز وذهبه تحت الحكم التسلطى الفاسد، وقد يضعف أو يفسد. القاضى الفرد ليس، من حيث المبدأ، معصوماً من الزلل، ويزيد احتمال زلل القاضى عندما ينتقص الحكم التسلطى عمدا من استقلال القضاء، ويخضع القضاة لإمكان الثواب والعقاب من السلطة التنفيذية، ويتفشى الفساد فى المجتمع، والقضاة منه مكون عضوى. ولهذا فإنه وإن كان من حق مصر أن تفخر بشوامخ القضاة المصريين العدول، فإن هذا لا ينفى أن فى تاريخ قضاء مصر الطويل قلة من قضاة لطخوا ثوب القضاء المصرى الناصع بزلات يترفع عنها القضاة الصحاح عند صلاح الأحوال، ويربأ بنفسه عن الوقوع فيها القضاة الشوامخ القابضون على جمر الحرية والعدل، حتى فى ظل نظم الفساد والاستبداد والعبث باستقلال القضاء، وإلا لما كان المجلس الأعلى للصلاحية يصدر بين الحين والآخر أحكاماً بفصل عدد من القضاة بسبب اتهامات منسوبة إليهم تنال من هيبة وسمعة القضاء. ولا يجب أن ننسى أبدا أن من أصدر الأحكام التعسفية الجائرة على الضحايا المصريين فى مذبحة دنشواى مثلا كان قاضيا مصريا اسمه بطرس غالى، وللاسم دلالات معاصرة، وأن من تصدى للدفاع عن الجناة الإنجليز المجرمين الحقيقيين فى محاكمة دنشواى كان أيضاً محامياً مصرياً. وإن كان لا يجب أن يُحتج بمثل هؤلاء على جموع قضاة مصر الأفاضل، فالمؤكد أن مثلهم انتهى إلى مزبلة التاريخ ولقى من النبذ والعقاب الشعبى والرسمى ما يستحق. أما عن المؤسسة، فالقضاء أحد أهم مؤسسات الحكم فى المجتمعات البشرية المتحضرة، والقضاء المستقل المنصف من أهم دعائم نسق الحكم الديمقراطى المؤسسى الصالح. والقضاء، مؤسسة وقيمة، أيضاً من أعز ما يملك الشعب، ويعلق عليه الآمال فى صيانة الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. ومن ثم، فإن الحرص على قيام قضاء نزيه، منصف ومستقل، يتجاوز القضاة أنفسهم إلى جموع الشعب قاطبة. كما أن زمرة القضاة فى لحظة زمنية محددة تحمل شرفا مزدوجا؛ القيام بأعباء القضاء النزيه والمنصف من ناحية، والتعبير عن ضمير الأمة من ناحية ثانية، باعتبارها شريحة من ألصق شرائح النخبة الوطنية بحماية الحق وإقامة العدل كأسس للحكم الصالح، ومن ثم يشكلون ضمير الأمة فى مسارها التاريخى. وتحت الحكم التسلطى الذى يقوم على الاستبداد والفساد يُضحى مجرد إحقاق الحق وإقامة ميزان العدل فعلا سياسيا بالمعنى الأشمل، تجاوزا للمعنى الضيق المقتصر على التحزب والسعى لامتلاك السلطة. ومن ثم، فإن إحقاق الحق وإقامة ميزان العدل فى ظل الحكم التسلطى هو شرف منوط بالقضاة العدول، باعتباره كلمة حق فى مواجهة سلطان غاشم، وهو أفضل الجهاد كما يقال. كل هذا يضع فئة القضاة فى لحظات تاريخية فارقة، تجاه تحدٍّ تاريخى فحواه المساهمة فى الإصلاح الهيكلى، أو البنيوى للحكم، خاصة فى منظور ضمان سيادة القانون، المنصف والحامى للحرية، وضمان الاستقلال الباتّ للقضاء. ومن ثم يصبح الإصلاح السياسى بالمعنى العام منوطا أيضاً بالقضاة، لكونهم شريحة طليعية من ضمير الأمة، فى مرحلة التحول من حبس الحرية وهدر الصالح العام من خلال توسل الطغمة الحاكمة للاستبداد والفساد، إلى مجتمع الحرية والحكم الديمقراطى المؤسسى الصالح. ولا يدنّس ذلك الموقف شرف القضاء، ولا تعاليه عن السياسة بمعنى التحزب والسعى وراء السلطة، بل يُعلى من شأنه، فى المنظور التاريخى، ويعد عربونا للمكانة الأرقى للقضاء فى مجتمع الحرية والحكم الديمقراطى الصالح. ولذا فمن المهم هنا التحذير من سعى الحكم الاستبدادى إلى إبعاد القضاة عن المساهمة فى مهمة الإصلاح التاريخية بدعوى عدم تسييس القضاء، أو توظيف بعض القضاة لخدمة الحكم التسلطى والتحالف غير المقدس للسلطة والثروة، عبر إصدار أحكام تخدم فى النهاية احتكار السلطة والثروة، وتضر من ثم بميزان الحرية والعدل، وهو أشر ما يقع فيه بعض القضاة فى ظل حكم الفساد والاستبداد. عبث السلطة التنفيذية باستقلال القضاء: ولكن الحكم التسلطى يعادى استقلال القضاء وشوامخ القضاة عداوة التحريم. وقد استشرى، لشديد الأسف، تحت الحكم التسلطى فى مصر، عبث السلطة التنفيذية بالقضاء، واتخذ أشكالا متباينة فى مراحل مختلفة حسب طبيعة المرحلة وشخصية المتسلط الأكبر. فى عهد عبدالناصر جرت مذبحة القضاء فى النصف الثانى من ستينات القرن الماضى عيانا جهارا بقرارات جمهورية. وتكررت مذابح القضاة فى العهود التالية باستخدام آليات وزارة العدل، أو وزارة تطويع القضاة إن شئت. فمعروف أنه فى عهد وزير العدل السابق ممدوح مرعى مثلا، نفذت وزارة العدل أكبر مذبحة للقضاة فى تاريخ مصر، حيث تم فصل نحو ستمائة قاضٍ من الخدمة، وتحويلهم إلى وظائف مدنية، وبعضهم جرى فصله بطلب من ضباط أمن الدولة وقيادات من الداخلية، لأنهم لا يتعاونون معهم. وبدءاً من عهد الداهية السادات استحدثت آليات لتطويع القضاة وترغيبهم فى خدمة السلطان باستعمال ذهب المعز، فقد كانت الانتدابات للمناصب الاستشارية المغرية ماليا والتعيين فى المناصب التنفيذية العليا موعودة للقضاة المتعاونين الذين كانت تحال لدوائرهم القضايا التى ترغب السلطة فى حسمها لصالحها، بينما يظل سوط الإحالة للتأديب أو «الصلاحية» بيد وزير العدل تأديبا لمن لا ينصاع للترغيب. وفى عهد الطاغية المخلوع مبارك تعرض القضاة، بالإضافة، للبطش البوليسى من قبل قوات الأمن البربرية حتى فى أثناء قيامهم بواجبهم فى الإشراف على الانتخابات. وهكذا تكاملت ترسانة متكاملة من أدوات الحكم التسلطى لتقويض استقلال القضاء وتطويع القضاة. وفى عهد سلطة الإسلام السياسى الراهنة، استعملت السلطة التشريعية بواسطة الرئيس الذى جمع بينها وبين السلطة التنفيذية فى سابقة فريدة من الانحراف عن الحكم الديمقراطى السليم، فى إصدار إعلان دستورى يحصن قراراته، السابقة واللاحقة، من مراجعة القضاء، مهدرا سلطان القانون واستقلال القضاء كليهما بضربة واحدة، فلم يذبح قضاة وقتها ولكن ذبح سيادة القانون واستقلال القضاء معا بضربة واحدة. (2) ولكن سلطة الإسلام السياسى لم تشأ أن تتخلف عن ذبح القضاة أيضاً، فجرى التخلص من النائب العام وتعيين آخر بدلا منه بالقرار الرئاسى المعيب نفسه. وكان الرئيس قد حاول قبلها التخلص من النائب العام السابق بتعيينه سفيرا فى الفاتيكان ولم يفلح. ولا أقصد هنا دفاعا عن النائب العام المقال، فقد كتبت كثيرا فى نقد أدائه فى الماضى، ولكن تأكد بعد إقالته أن كثيرا من أجهزة الدولة التنفيذية، الواقعة تحت سلطان الرئيس، كان لها ضلع كبير فى إفشال قضاياه، خاصة تلك المتعلقة بقتل وإصابة المتظاهرين والفساد. ويبقى المبدأ أن أى نائب عام يعينه رئيس السلطة التنفيذية بقرار منفرد، بمن فى ذلك النائب العام الذى عينه الرئيس مؤخرا، لا يستطيع أن يرقى لمسئولية وشرف أن يكون ضمير الشعب ومحاميه العام، خاصة فى مواجهة فساد السلطة التنفيذية، ولكن سيبقى ولاؤه لمن عينه ويملك إقالته. كذلك تضمن مشروع الدستور المعيب الذى اختطفته بليلٍ جمعية تأسيسية، مشكوك فى صحة قوامها ومعروض أمره أمام القضاء، نصاً فُصّل ليذبح بعض قضاة المحكمة الدستورية ويجعل تعيينهم جميعا حكراً على رئيس السلطة التنفيذية، ما يؤسس لسيطرته المطلقة على المحكمة الأعلى فى البلاد. وليس فى قولنا هذا بأى حال دفاع عن شخوص هؤلاء القضاة المعزولين، فلا ريب فى أن بعضهم قد غالى فى موالاة الحكم التسلطى العسكرى بعد الثورة، ربما تخوفاً من سطوة الإسلام السياسى، وقد تحقق ما كانوا منه يتخوفون، وإنما يعنينا العدوان الصارخ على صحيح مبدأ القانون الذى يمنع عزل قضاة المحكمة الدستورية. وتتردد أخبار بأن قرارا تنفيذيا يجرى الإعداد له للتخلص من بعض القضاة من خلال فرض حد أعلى لسن الخدمة أقل من ذلك القائم حاليا. غير أن الفريد حقا فى عهد سلطة الإسلام السياسى هو إقدام بعض شوامخ القضاة على الانتحار المعنوى، وسأورد فيما يأتى أربع حالات صارخات مصداقاً لزعمى من دون ذكر أسماء فسيتعرف عليهم أى متابع للأحداث. وقبل أن أزيد كلمة أود أن أؤكد أننى كنت أحمل لشخص كل حالة من الحالات الآتية احتراما جما وتقديرا ساميا باعتباره علما من أعلام شوامخ القضاء المصرى العظيم وأبطال حركة استقلال القضاء قبل الثورة، بل كانت تربطنى ببعضهم مودة خالصة توطدت بعد سنوات من الاعتزاز والتقدير المتبادل، وأحدهم كان صديق عمر أثير. وقد أذيع سرا أن أحدهم بادر بالاتصال بى من هاتفه المحمول فور تعيينه فى المنصب الرسمى، مؤكداً الود الشخصى ومعلنا أنه لم يتغير ولن يتغير وأنه سيعمل بدأب من أجل المبادئ التى نؤمن بها، وسعدت بذلك الاتصال وذلك التأكيد أيما سعادة، ولكن السلطة تأكيدا مفسدة. أبدأ بواحد ضيّع حصيلة عمر من الاحترام والتقدير البالغين من قبل جميع الفصائل الفكرية والسياسية بابتداعه سقطة المسار المعيب للتحول الديمقراطى بعد الثورة الشعبية العظيمة، القاضى بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل وضع الدستور، الذى أدى عن قصد مبيت أو عن غفلة لا تليق بمثله ولا تقبل منه، بعد طول ارتباك وتخليط، إلى تغلب الإسلام السياسى فى السلطة وفى وضع الدستور، فأفرخ سلطة حكم تسلطى تتسربل شكليا بالإسلام، وتتغنى بنصرة الثورة، بينما ينصرف همها لترسيخ حكم الفساد والاستبداد الذى قامت الثورة لإسقاطه، ناهيك عن مشروع دستور يحط من قدر الثورة الشعبية العظيمة. والثانى من عماليق حركة استقلال القضاء فى عهد الطاغية المخلوع، ارتقى سدة وزارة العدل، وتدريجيا مع بعض محاولات التجميل الشكلى، سلك كما كان وزراء العدل الذين كان ينتقدهم بحق سلوكهم المعيب ذاته، انحرافا عن صيانة استقلال القضاء، بل زاد عليهم عداء معلنا لحرية التعبير والإعلاميين وحرصا على تقييد حق التجمع السلمى، وصمت عن انتهاكات القضاء والقضاة التى سبق ذكرها. وثالث مثله وقريب منه، ارتضى منصب الرجل الثانى فى السلطة التنفيذية دون صلاحيات فعلية، وانتهى مبررا لانتهاكات الرجل الأول لسيادة لقانون واستقلال القضاء ومجمّلا لها، وفقط عندما تأكد اعتماد الدستور الجديد وإلغاء وظيفته تقدم باستقالة متأخرة تشى بالمناورة السياسية أكثر من التمسك بالمبدأ، وانتهى سفيرا لدى الفاتيكان لا غير! ورابع كان يشغل منصب كبير قضاة مصر وارتضى أن يرأس جمعية تأسيسية لوضع الدستور يشوب قوامها عوار منظور أمام القضاء، وأدار فى سابقة تاريخية يندى لها الجبين أغرب عملية لاختطاف مشروع دستور بعجلة اللصوص الهجامة. وزاد على ذلك أن ارتضى رئاسة مجلس لحقوق الإنسان عُيّن له أعضاء فيه من رموز الإسلام السياسى مشكوك فى اقترافهم لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وواجه المجلس برئاسته الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان فى ظل سلطة الإسلام السياسى، وبتوظيف أنصارها من الدَّهْماء بصمت القبور. وإن كنت لا أرضى لأيهم هذا المصير، من فرط اعتزازى بهم، فلا أعدم تفسيرا منطقيا لتصرفهم المدمر لذواتهم ولمصير البلد من منطلقين: يقوم الأول على التدين الفطرى المجبول عليه أهل مصر، الذى يقوى بتقدم العمر والإحساس بدنو الأجل. ويرتبط الثانى بمناصرة الإسلام السياسى تخوفاً من انتصار الثورة المضادة التى يشنها عمداً النظام الذى قامت الثورة لإسقاطه ولم تفلح بعد. المنطلق الأول لا نملك له دفعا، لكن عتبى عليهم هو من باب الضن عليهم بالسذاجة السياسية التى تخلط، كما يفعل بسطاء العامة، بين التدين الشخصى السليم وبين مناصرة الإسلام السياسى المتخفى فى رداء الإسلام خداعا ونفاقا، والأخطر هو أنهم بسلوكهم هذا يجرّون على البلد العزيز نظام حكم أشد تسلطا وأخبث. فالمؤكد أن كل من والى حكما تسلطيا يتسربل ظاهريا بالإسلام من شوامخ القضاة، ولو تخوفا من تسلط آخر سابق أو محتمل، يقوِّض سيادة القانون واستقلال القضاء.