«الاستخفاف أخدود الزلل» هذا ما كان يقوله قديما شيخنا أبوفهر محمود محمد شاكر رحمه الله، وهذا يعنى أن بناء العقول والأمم والحضارات لا يكون على يد الذين لا يأخذون أنفسهم بالعزيمة، فيرتفعون عن مزالق الاستخفاف، ولا يعرفون شرف العقل الإنسانى، ولا جلالة الميثاق الذى أخذه الله رب العالمين على بنى آدم جميعا، فكانوا بذلك أمناء مستخلفين، يعمرون الأرض بتعظيم الخالق، والشفقة على المخلوق عدلاً وإحساناً، ونهياً عن الفحشاء والمنكر والبغى بصوره كلها! ولن تجد هذا الثالوث فى أمةٍ «الفحشاء والمنكر والبغى»، إلا ثمرةً للاستخفاف والاستهانة، إما بحقوق الله تبارك وتعالى، وإما بحقوق الناس، مما يخرج بالإنسان من حد الاستخلاف وميثاق الأمانة، إلى حيّز الظلم والبغى والعدوان، «وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً». وللتاريخ فى حَرَمِ الأمم صولاتُه الرافعة الخافضة، ولكنَّ الأمم لا تنهض إلا بتحررها من عدوان «الاستخفاف» على عقول أبنائها وسلوكهم، فى العلم، والسلوك، وإقامة الحق، وإشاعة العدل، ونفى الظلم، ومتى تخلف هذا الأمر عن مجتمعٍ، ولو بلغ ما بلغ من الرفعة الحضارية والتقدم المادى، فإنه لا محالةَ عرضةٌ للسقوط فى هوة الاستنزاف والتبعية ولا بد! انظر الأندلس! تلك الحديقة العلمية البديعة ذات الحضارة والنضارة، عندما تخلف فيها الحزم، وصار الاستخفاف نمطاً حياتياً، بالترف، والدعة، والركون إلى الكسل والخمول، والسكوت عن الظلم.. صارت موطئا لأقدام فيرناندو الثالث وزوجته إيزابيلا وريثة عرش قشتالة، وذهب كل الذى كان فى ومضة عينٍ لم تجد غير الدمع شعيرةً لطقس المهانة المرير فى قلب أبى عبدالله محمد الثانى عشر، آخر ملوك غرناطة، والذى ما زال هنالك مكان يحفظ وقفته الأخيرة أسماه الإسبان: زفرة العربى الأخير! وإذا انتقلت إلى واقعنا الذى لا يقل مرارةً، ستجد أن الاستخفاف كامنٌ فى بنية المجتمع الذى يقطر دماً مصرياً، على يد مصريين (!!) فى مرحلةٍ حرجةٍ من تاريخ مصر المعاصر، بعد ثورةٍ «محاصَرةٍ» بأدغال الداخل وأغلال الخارج، ونفوذٍ مستطير للمال المدنَّس، وكواليسَ مُفعمةٍ بكثيرٍ من الغدر، و.. الاستخفاف! فلم يعد للناس ولا لدمائهم ولا أعراضهم حرمةٌ، وفجأةً اختفى شىء اسمه «القيمة»، وصارت الخصومة السياسية سببا كافياً جداً لاستباحة كل شىء عند كثير من الناس، فيقطعون الطريق، ويحرقون المنشآت، ويقتلون الناس، وينشرون الرعب.. هذا فى الشارع.. وأما شبكة الإنترنت، فكل من خالفنى مشتوم بأقذع الألفاظ، وأقبح الكلمات، والخوض فى كل شىء، والإفتاء فى كل شىء، حتى ما كان من الدين والعقيدة، فالكل عالمٌ، والجرأة-ولله الحمد!- وافرة عجيبة! ولا يعلم صاحبى أن القول على الله بغير علم هو أعظم المحرمات، وأن الرصاصة التى تقتل إنساناً، لا تنطلق من فوهة المسدس وحده، وإنما يشارك فى إطلاقها الراضى بها، والموافق عليها، وكم من قاتلٍ لم يغادر بيته، وإنما شارك بالرضا والموافقة، أو تغريدة هنا، ومنشور هناك، أو شائعة هنالك! إن موسم الاستنزاف العلمى والخلقى والسياسى الذى نحياه يوشك أن يُغرق المجتمع إن لم تكن هناك يدٌ بانيةٌ حازمةٌ، وعزمٌ «صادقٌ» يؤسس لسفينة النجاة على قاعدة صحيحة، تجفف منابع الاستخفاف والاستهانة، قبل أن يغرقنا الطوفان.. جميعاً!