تغيرنا، تبدلنا ولم نعد أبداً كما كنا، أتذكر أنه قبل سنوات قليلة، كان لا يستطيع كائنٌ من كان التفرقة بين مظهر المسلم والمسيحى، أو بين ملابس غير المتدين من المتدين، المظهر واحد، العبارات واحدة، القاموس اللغوى هو ذاته. وبين ليلة وضحاها، رأينا جِلْباباً وعباءة سوداء وغطاء رأس، وبالمقابل رأينا مبالغة فى أحجام صلبان معلقة على صدور النصف الآخر من المجتمع، فى مباراة لإثبات الهوية الدينية، بل إن الديانة الواحدة ذاتها بات الاختلاف بين أفرادها واضحاً صاخباً، يصرخ بفجاجة وغلظة. هكذا غلبنا المظهر على الجوهر، وأصبحنا نرائى بتديننا، واستجدت تغيرات بغيضه فى سلوك المجتمع، كثرت نبرة العدائية والتحفز والتحيّز، لأشياء لا تهم غير أصحابها، ما شأن باقى المجتمع، بل والكون بتدينك من عدمه، أو بلفظ أدق بمظاهر تديّنك؟! كثر الادعاء والتمثيل وتلبس صفات ظاهرية شكلية، عقيمة، لا تسمن ولا تغنى من جوع، وأصبحنا مجتمعاً يعيش بوجهين، يضمر قبحاً عجيباً، قبحاً وشراً لا يستحيان من الظهور سافرين أبداً، تفشى الحقد والغل والكراهية والاستبداد والنفاق والمحسوبية والخيانة والغدر وقسوة القلب والغلظة والأنانية، أو يكون هذا مصادفة؟!! لا أظن أبداً، بل أعتقد جازمة أن المبالغة فى إظهار التدين هو غطاء ورداء لتغطية قبح حقيقى، وبشاعة داخلية تملأ النفوس والقلوب، كمن يدهن جداراً رطباً، عفناً، بطلاء ذى لون جذاب، فما يمكث الطلاء الكاذب سوى بضع ساعات حتى يظهر العفن من تحته ويزداد تلف الجدار فيظهر قبحه أكثر فأكثر وكأنك قد وضعت له إطاراً يحدد ملامحه البشعة ليؤذيك كلما نظرت إليه. طالما خرج شأن التدين من مكانه الصحيح ألا وهو القلب وأصبح أداة للمراءاة والعبث، وطالما غابت القيمة الأكبر والأهم وهى مخافة الله، واستحضاره دائماً، وحل محلها الاستعراض على خلق الله، كلما كان التدين شكلياً، ظاهرياً لا معنى له، ماذا يعنى الناس بأمرك، وما يعنيك بأمر الناس! أو لست تعبد رب الناس؟! إن أردت تديناً حقيقياً فى مجتمع ما، امنع الوصاية الدينية، امنع قنوات التطرّف، امنع الجهال من الحديث عن الدين وإفهامه للناس بأنه جلباب وحجاب!! وفقط، إن أردت تديناً ومجتمعاً فاضلاً، ازرع الأخلاق، الأخلاق مادة مشتركة بين جميع الأديان والمذاهب، بل إن الأخلاق هى أساس الدين والتدين، إن تحليت بالأخلاق، سوف تدب بقلبك الرحمة والمحبة والعدل والإيثار والرأفة وحب الجمال والخير والعطاء، بهكذا صفات أصبحت قديساً وليس متديناً فحسب. تزرع الأخلاق بالمجتمع المدنى بطريقة متحضرة، بتثقيفه وتنويره وبالعناية بعقله وقلبه، بالإشراف على المحتوى الثقافى والتعليمى والإعلامى الذى يقدم له، بسن قوانين عادلة وتطبيقها بشفافية وإلزام والتزام، ولن تضطر حينها لتعقبهم من منهم مفطر ومن فيهم صائم، قائم. مجتمع مدنى بدولة متحضرة، يكون أكثر وأسهل فى التكوين، من مجتمع تحكمه مظاهر كاذبة، مجتمع يفعل فى الخفاء ما ينكره فى العلن، مجتمع صحى يكون فيه الفرد كما فى حديث نبينا الكريم «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». تديننا الظاهرى، سببه الأول التعالى على الآخر والكبر، والنفاق المجتمعى ومراءاة الناس، والخوف من ألسنة البشر تلوك وتلوم بعضها بعضاً، وكذلك فراغ وخواء العقول والقلوب، وحشو معلومات عن الدين تحفظ ولا تعقل، ولا يعمل بها، ونقل أفكار وتفسيرات لا علاقة لها بصحيح الدين أو الفطرة السليمة، آفتنا هى الادعاء والافتراء، والمخرج الوحيد من هذا الزيف المقيت لا يكون أبداً بستر العيب وإنكاره بل بالبتر الفورى.