منذ أطلق الرئيس «السيسى» دعوته الجريئة التى لن تستفيق مصر من كبوتها إلا بها، ألا وهى تجديد الخطاب الدينى، ونحن نتعامل مع عبارة «تجديد الخطاب الدينى» باعتبارها مسكناً سريعاً للآلام الآنية، ومخدراً موضعياً للجروح المفتوحة، وسد خانة لحفظ ماء الوجه. لكن أحداً لم يتخذ خطوة حقيقية لتجديد هذا الخطاب الذى لم تنل منه عوامل التعرية الزمنية والتجريف المتعمد والاحتكار المقصود فقط، بل تحول أداة قمع ووسيلة دفع بلد بأكمله نحو القاع. فلا توجيه خطباء المساجد للحديث عن قضايا بعينها فى خطبة الجمعة سينقح الخطاب، ولا الدفع بوجوه بعينها للساحة الإعلامية سيحدثه، ولا الحديث ليلاً ونهاراً عن تدين الشعب الطبيعى أو تمسكه الفطرى بالدين سيغير المسار للأفضل. جميعها وغيرها من الجهود المبذولة تسهم فى تنقية الأجواء من عكارة وتلوث فكرى ارتدى جلباب الدين على مدى ما لا يقل عن أربعة عقود، لكنها تظل عاجزة عن إحداث تغيير جذرى وخلق بيئة فكرية صحية صحيحة تجعل من التدين عنصراً محفزاً على التقدم والإبداع وتيسير حياة الإنسان، وليس مكبلاً للتحضر والتفكير وتعسيراً للحياة. المطلوب عن حق هو «إعادة فرمتة» الأدمغة بحيث تستوعب أن فتوى حكم استخدام الشطافة فى نهار رمضان، وحصر العبادات فى كتيب حسابات حيث الركعة بألف والخطوة بعشرة آلاف والسكوت على الظلم بعشرين ألفاً.. إلخ، وحبس الكائنات الأنثوية فى منظومة القماش حيث لا صوت يعلو على عفة النقاب والحجاب، ولا صوت يصدر عن قيمة العمل والضمير، والهوس بالجنس مع الحرص على إلباسه عباءة الدين وغيرها من صيغ الخطاب الدينى التى ذاعت وانتشرت وأصبحت لها السطوة فى مصر على مدى العقود الأربعة الماضية لن تكتفى بتوصيلنا إلى القاع، بل ستطبق على أنفاسنا للتأكد تماماً من أننا فقدنا القدرة تماماً على أن نطفو مجدداً إلى سطح الإنسانية والحياة السوية. وحين ذاعت فتوى حكم استخدام الشطاف فى نهار رمضان قبل أيام، وذلك فى مناسبة قدوم الشهر الفضيل (الذى تحول مع الأسى مع الألم إلى مناسبة لإطلاق الفتاوى الخارجة عن إطار الزمن تماماً) لم أصدق حين رأيت أمين الفتوى فى دار الإفتاء المصرية يتبحر ويغوص فى عرض خلاف علماء المسلمين فى هذا الأمر الرهيب، فمنهم من قال إنه يبطل الصيام لأنه يدخل المياه إلى «الجوف» ومنهم من قال إنه لا يبطل، ونحمد الله كثيراً أن عالمنا الجليل مال إلى الرأى الوسطى الجميل الذى من شأنه أن يغير حالنا وحال سائر المسلمين، وأفتى بأن استخدام الشطاف فى نهار رمضان لا يبطل الصيام، شريطة أن يحتاط الشخص الذى يستعمله، وألا يُدخل الماء إلى المعدة. وبعيداً عن قدرة ماء الشطاف على الدخول إلى المعدة، فقد فوجئت بأن الفتوى نفسها صدرت فى العام الماضى فى مثل هذا الوقت الجميل من الشهر الفضيل، ولكن على لسان مدير إدارة الفتوى المكتوبة فى دار الإفتاء المصرية حينئذ، الذى أكد أيضاً وجود خلاف فى هذه المسألة الحيوية. وأكد فضيلته وقتها أن جمهور العلماء يفتون بأن دخول الماء من فتحة الشرج يفطر الصائم، وأن آخرين مثل ابن حبيب واللخمى رأوا أن ذلك لا يفطر. وأفتى سيادته بإمكانية استخدام الشطاف فى نهار رمضان لكن فقط عند الحاجة! ولو تركنا هذا الشأن الجلل فى حياة الإسلام والمسلمين، وتساءلنا عما لحق بقيمة الدين جراء تحويل جزء منه إلى كشف حساب بنكى بمعنى الكلمة، حيث يصول المشايخ ويجولون ويسهبون ويمعنون فى تحويل دفة الصلاة بعيداً عن جابنها الروحانى وقدرتها على تنقية النفوس، إلى حساب الخطوة بألف والركعة بألفين والسجدة بثلاثة آلاف وحساب تلك الملايين المتكدسة فى دفاتر الحساب، وكأن العلاقة بين الخالق والعبد دائن ومدين، فسيظهر من ينعت السائل بالفسق والفجور. والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى. وتكفى نظرة واحدة إلى مجتمعنا لمعرفة ما لحق بكل فئاته وطبقاته جراء الخطاب الدينى العجيب الغريب المريب الذى سيطر على أدمغتنا، ومنعنا من التفكير، وحظر علينا النقاش إلا فى توافه الأمور. لم يعد تديننا يدفعنا نحو الأفضل والأرقى والأسمى، بل يدفعنا نحو رفض كل من لا يردد «آمين» حتى على ما خلا من المنطق وخاصم الحق. ويجبرنا على النظر بعين الشك والريبة، وربما التكفير والتشكيك لكل من فتح نقاشاً أو طرح سؤالاً لا يتبع مقاييس الأيزو فى فتاوى الشطافة وإرضاع الكبير وحكم من دخل الحمام بالرجل اليمنى. والنتيجة هى أن كثيرين باتوا يحتفظون لأنفسهم بأسئلتهم وأفكارهم وتشككاتهم التى لو طرحت على الملأ فى هذه الأجواء الملبدة ب«التدين الفطرى» و«الاتهام الأتوماتيكى بالكفر والفجور لكل من استاء من رشق سيفين على زجاج السيارة الخلفى، أو شكا من سائق الدراجة النارية الذى ينشر الإسلام بشريط القرآن الكريم المثبت أمامه بعلو الصوت. كتب أحدهم على صفحته قبل أيام: «بيقول لك مرة مجتمع متدين بطبعه مشاعره بتنجرح لما حد يفطر قدامه وهو صايم، ولما ست من الأقلية الدينية اتسحلت قدامه وقلعوها هدومها قال ما تكبرش الموضوع #حساس_رايح_ومش_حساس_جاى»، فإذ بأصدقاء ومعارف يطالبونه بعدم المجاهرة بمثل هذه الأفكار لأنها تثير الفتنة! وإلى مرة مقبلة، نشعر فيه بحتمية اللجوء إلى دعوة الرئيس لتجديد الخطاب الدينى، لنعيد طرح السؤال: هل نجدد؟ أم نُقَيّف؟ أم ننسف ونعيد البناء؟! أم نخصص إدارة نسميها «فتاوى وفواجع»؟!