نتألم لمآسينا.. لكن ليس لدينا وقت ننفقه فى ترتيبات جنائزية حزينة، ثم تنتشر بكائيات ومرثيات بكل المفردات، بيد أن حجم التحديات التى تواجه الوطن وحجم المؤامرات الداخلية والخارجية المتتالية والمتوازية من كل الجهات تحتم علينا أن نبتلع أحزاننا وآلامنا ومآسينا ونتوقف عن ذرف الدموع، لقد وصلنا إلى مرحلة يعد الحزن فيها نوعاً من الرفاهية، أما البكاء فأراه رفاهية مفرطة! إن الوقت الذى يمكن أن نستغرقه فى الحزن والألم والبكاء يجب علينا أن نستخدمه فى مواجهة كل صنوف التحديات والمؤامرات من ناحية، ونستمر فى معركة البناء.. بناء دولة قوية عفية علية، من هنا أرى أننا لا نملك رفاهية البكاء، فلا وقت للبكاء فقد حان وقت التحديات، أنفقنا جل أوقاتنا فى أمور تافهة تدور حول أمور جدلية بين جهلاء وأنصاف سياسيين من ناحية، وعملاء ومرتزقة من ناحية أخرى، لقد أنفقنا أوقاتنا فى أمور انحرفت بالوطن إلى مناطق نائية عن جغرافية الأمن القومى، وتحولت معظم وسائل الإعلام إلى مكلمات وأجندات، وكما يقولون عندما يتحول الأبيض إلى رمادى، ويتحول الرمادى إلى أسود ويتحول الأسود إلى عدوان فتش عن الإعلام! وإذا تحول الحق إلى زور وتحول الزُّور إلى بهتان فتش أيضاً عن الإعلام، عندما حدثت كارثة الطائرة الروسية شاهدنا أداءً منفلتاً غير مسئول من الغالبية، وكانت تلك الغالبية تتحدث لتدافع عن فرضية عدم إمكانية سقوط الطائرة الروسية نتيجة عمل إرهابى، رغم أن التحقيقات كانت فى بدايتها، هذا الأداء صور مصر كأنها «على رأسها بطحة»، أو كأنها «عاملة عاملة»، وكان هناك من يجزم أن سبب سقوط الطائرة هو خلل فنى فى الطائرة، وقطعاً هذا التوجه الإعلامى أغضب الرأى العام الروسى مما مثل ضغطاً على القيادة الروسية ودفعها لاتخاذ مواقف متشددة فى التعامل مع الملف، وجاءت قضية ريجينى لتعكس أسوأ أداء إعلامى فى قضية تمس الأمن القومى بشكل مباشر، حتى وصل بالبعض إلى أن يختلق قصصاً وروايات فاقت فى حبكتها الروايات البوليسية التى كنّا نقرأها صغاراً، لقد تحدث معى أحد الأصدقاء من إيطاليا عن مذيعة مصرية قالت نصاً: «يغور ريجينى فى داهية»، وأخبرنى بأن الصحف ووسائل الإعلام الإيطالية أذاعت هذا المقطع المستفز وجعلته فى صدر صفحاتها ومواقعها مما تسبب فى حالة غضب شعبية غير مسبوقة مثلت أيضاً ضغطاً على الحكومة الإيطالية وسط أجواء انتخابية ملتهبة مما دفع الأخيرة لاتخاذ مواقف متصلبة تجاه الدولة المصرية، وجاءت الأحداث التى أعقبت ترسيم الحدود مع السعودية وقضية جزيرتى تيران وصنافير وبعدها أزمة نقابة الصحفيين لتؤكد أن هناك حالة سيولة وانفلات وعزم ثقة تسود الأجواء المصرية، وأخيراً جاءت حادثة الطائرة المصرية التى ابتلعها البحر المتوسط، وهى مقبلة من فرنسا لتكون بمثابة الكارثة الحقيقية التى تعكس حالة من السطحية والضحالة والجهل واغتيال المنطق وضياع المهنية، الجميع يحاول ويلهث وراء السبق والإثارة وأكبر قدر من المتابعة والمشاهدة، تاهت الحقيقة وارتبك الرأى العام وبدأ الشامتون والشتامون من أعداء الدين والوطن فى استثمار واستغلال هذا الحادث لمحاولة النيل من مصر، أتذكر أداء الإعلام فى ملف سد النهضة وحجم الضرر الذى وقع على مصر جراء هذا الأداء المتدنى، أقول إن مصر الآن بكل ما تعانيه من أزمات وما تواجهه من تحديات ما عادت تحتمل مزيداً من الانحطاط الأخلاقى والمهنى واللعب بالنار فى مناطق لا تحتمل مجرد الاقتراب منها، إن مصر الآن ليس لديها وقت للمهاترات والجدال والخلاف والفتن والانشقاق، ليس لديها وقت على الإطلاق حتى للحزن والبكاء، كل الوقت يجب أن يكون للعمل والتحديات، كل الوقت يجب أن يوجه للبناء، كل الوقت يجب أن يكون للوطن.. الوطن دون سواه، أفلا تعقلون؟