شفت بعيني ماحدش قالي.. ظللت أراقبه في صمت، وكنت قد أوقفت "ميكروباص" للذهاب إلى مكان عملي ذات صباح، ذلك الرجل الذي تصادف جلوسي خلفه على أحد كراسي العربة، بحيث أرى توجهات رأسه وإلام تتجه نظراته بالتحديد بالتأكيد دون تعمد مني بالطبع لمراقبته في ذلك. لحظة اندهاش وصمت مشوبة بصدمة وقتية أصابتني في أثناء مرور الميكروباص من أمام أحد محال الملابس الذي كانت به جميع "مانيكانات" المحل مجردة من كل ما "يستر" هذا الكائن البلاستيكي، في إجراء طبيعي يكلف به أصحاب المحال العاملات والعاملين بالمحل للتجديد والتنويع في الملابس المعروضة. ويمر الميكروباص من أمام المحل، على الفور تتجه أعين ذلك الرجل إلى "مانيكانات" المحل" "العاريات" يرمقهن في لحظة عابرة لا تتعدى ثوانٍ معدودة هي مدة مرور الميكروباص من أمام المحل، صدفة تلمحه عيناي في دهشة واستنكار ليتفجر بعدها في رأسي، وينهمر سيل متدفق من الأسئلة: لماذا؟، لماذا نظر الرجل لهذه المانيكانات؟.. هذه "التماثيل" التي لا دماء لها ولا روح، وبماذا شعر؟، هل أشبعت عنده نقصًا ما، حرمانًا ما، رغبة ما، أو كبتًا جنسيًّا ما؟، وهل هذه النظرة على صغر حجم الموقف - إذا ما قسناه بالمدة الزمنية وليس المعنوية - يحمل في طياته وينبه إلى قضية مجتمعية أخطر وأعمق وهي أن يكون هذا الفعل تجسيدًا واختزالًا لنظرة الرجل للمرأة في مجتمعنا، وخاصة في المجتمعات العربية بشكل عام.. الذي يرى فيها جسدًا بلا روح أو عقل، ومخلوقًا وجد لمجرد المتعة والخدمة والإنجاب والسمع والطاعة؟.. هكذا أخذني الموقف بعيدًا في أقل من خمس دقائق. للدرجة دي الحرمان وصل للمانيكان؟.. مما لا شك فيه أن البعض في المجتمعات العربية ومجتمعنا بوجه أخص يعانون من حرمان حقيقي، وهو ما يتجسد في ممارسات شاذة غير أخلاقية نلمسها يوميًّا في حياتنا اليومية وبالأحرى المرأة، أبرزها التحرش والاغتصاب وزنا المحارم، ولعل أحدث واقعة تداولتها المواقع الإخبارية وما زالت أصداؤها تتردد إلى الآن، واقعة التحرش بإعلامية إيرانية شهيرة والتي وصفتها بمرارة قائلة: "عيونهم كانت تخترق جسدي"، رغم أنها التزمت بزي "صارم" فرضته القناة "الإيرانية" عليها قبل بدء العمل معهم، إلا أن هذا لم يجعلها في مأمن بعيدًا عن ذئبين يعملان بالقناة حاولا التحرش بها. نعود لحديثنا مرة أخرى، هذا بالطبع غير المعاكسات اللفظية التي تتعرض لها أي مرأة أو فتاة بشكل يومي يصل بعضها للتلفظ بألفاظ بذيئة خادشة للحياء، وصولًا للنظرات الجارحة لجسد المرأة في الشارع أو الأماكن العامة أو حتى داخل أروقة العمل، وماحدش يقولي هي اللي بتجيبوا لنفسها - اتلهوا - المنقبة لم تسلم، المحجبة لم تسلم، من تطلق شعرها لم تسلم، وللأسف أحيانًا البنات الصغيرات لا يسلمن.. حتى المانيكان لم تسلم من تلك النظرات المريضة، حجّبوهم بقى أيها "المبرراتية"! ما علينا. أخذ بي عقلي لعقد مقارنة بين زمننا هذا وما مضى من أزمنة لم تكن بها كل هذه العقد والكلاكيع، قد ترسبت داخل الكثير منا، نعم هناك ضغوط ومن ينكرها فلا يفقه شيئًا، الضغوط المادية والاقتصادية وظروف المعيشة ومغالاة الأسر في طلبات الزواج والانغلاق والكبت، كلها أسباب ساهمت في تفشي بعض هذه الممارسات المريضة، ولكن علينا أيضًا ألا تكون هذه الشماعة التي دائمًا ما نعلق عليها أخطاءنا، وإلا أبحنا للسارق أن يستولي على أموال لا يستحقها بدافع الفقر والعازة، فكل نفس بما كسبت رهينة، والله عز وجل منحنا إرادة وخلق لنا عقلًا يميز جيدًا كل ما هو خاطئ، هذا إذا وجد الوازع الديني والأخلاقي من الأساس. القضية لا تتعلق بملبس وإن كنا لا ننفى على الإطلاق بعض "الأفورة" في أداء بعض الفتيات، إلا أن هذا أيضًا لا يبيح للرجل أن يطلق العنان لشهواته وكأنه مسلوب الإرادة والعقل، وكأن الله لم يميزه عن أي دابة. ولكن ما يحزنني بالفعل أن الدنيا كانت بسيطة جدًا، لم تكن تكونت كل هذه العقد بعد، هذه الأيام الجميلة التي يحكي أباؤنا وأمهاتنا عنها، أيام الميني جيب وإطلاق الشعر على عواهله دون إيذاء أو تجريح، أيام رقصة ال"تويست"، ولا أعلم لماذا انتباني هذا الشعور بالتحديد حينما كنت أشاهد صدفة فيلم "الحقيقة العارية" لماجدة وإيهاب نافع، وفي حفل راقص بالفيلم داخل أحد اليخوت أخذ كل رجل امرأة أمامه ليتبادلا الرقص سويًا على أنغام الموسيقى في أريحية وانسجام تام دون أن تشعر حينها أنها فريسة له أو يشعر هو بأن شيئًا ما "أوفر" يحدث. هذه الرقصة تقريبًا لم يخل منها أي فيلم عربي قديم، وتساءلت حينها في شيء من الاستغراب لماذا اختفت الآن؟، وهمست لنفسي ساخرة: "من ساعة ما بطل المصريين يرقصوا الرقصة دي اتكلكعنا، فتفتكروا الحل ممكن يكون في الرقص إذا كان سيجعلنا أكثر بساطة وأقل عقدًا و"كلكعة"؟، وإذا ما طرحنا حلًا خياليًا فانتازيًا بعيدًا عن الحلول النظرية التي تلوكها الأفواه يومًا بعد يوم في الفضائيات والصحف ومن خلال تصريحات المسؤولين عن ضرورة اعتدال البنت في ملابسها وإفراغ طاقات الشباب في عمل مفيد وإيجاد حلول لمشاكل الإسكان والغلاء والنصائح الراكدة بالتساهل في أمور الزواج، إلخ إلخ، طب وليه لأ مش جايز؟.