«مخيم الزعترى» هنا لحظة التجمد الكبرى! الكل يموتون، ولكنَّ الموت نسياناً يكون أشدَّ قسوةً على النفس البشرية! والكل يعانى، ولكن عندما تكون المعاناة تحت حصار الأعين العربية المسلمة، فإن المحنة أكبر! والشتاء فى العالم كله له نكهته الخاصة، لكنه ها هنا يقطر دماً ويتنفس موتاً! هنا يجلس الطفل الصغير بين يدى أمه، لا ليمارس لعبته المفضلة فى العبث بالأشياء، والمرح فى مساحات البراءة، والضحك المتناثر هنا وهناك، وإنما لتلفه زُرقة البرد وتكسو أطرافَه برداء قاتم يكون كفنه الذى يرتحل به عن الوجود! اللوحة تشير إليه باعتباره مخيما للإيواء (مخيم الزعترى)، ولكنَّ مفردة الإيواء تحولت فى عصرنا الجاحد إلى «جبّانة» واسعة تحت وطأة الجليد الأسود، ولا أدرى بمَ سيجيب أغنياء المسلمين والعرب ربهم يوم يقفون جميعا بين يديه، ويسألهم عن هذا القتل الجليدى! كلما امتدت بنا الأيام، وسرنا فى دروب الحياة، تعثرنا بمشهد يعرّى حقيقة قلوبنا ويكشف لنا ميراث اللامبالاة القبيح فى كثير من أفعالنا وأعمالنا، حتى صار طقس الغضب موسميا، ليس به من الحرارة ما يذيب مرارة الجليد الذى يخوض حربه اليومية ضد مروءتنا وكرامتنا الإنسانية! ما زال فى أذنى كلمة كعب بن الأشرف عدو الله ورسوله، وقد سمع النداء ليلا، فلم يحتجب فى سرير خوفه، وقام ملبيا قائلا بمروءة غريبة: إن الكريم إذا دُعِى إلى طعنة بليل أجاب! والسموءل اليهودى، الذى خالف عادة قومه، فقام بالوفاء لغريب عن دينه وقومه، ولم يبالِ بأن يكون الثمن ذهابَ حياة ابنه! والناس يتلفتون هنالك بحثا عن يد ترسل إليهم ما يليق بآدميتهم، ويحفظ عليهم حياتهم على أطراف بلاد العرب «الجدد»! أو تدرى متى يكون الموت تهمة؟! عندما يموت فيك ما تكون به حيّاً! نعم، فالعرب قديما فى جاهليتهم، كان الواحد منهم يأنف أن يلحق جارَه ضيمٌ أو أذى؛ لأن فى ذلك قدحاً فى مروءته ورجولته، وهو ما يعنى عند الشريف منهم موتا حقيقيا لا يمحوه عنه أن يكون متنفسا آكلا شاربا! واللاجئون فى «الزعترى» يرددون مع «مطر»: (قطيعٌ نحن والجزَّار راعينا ومنفيون نمشى فى أراضينا! ونحمل نعشنا -قسراً- بأيدينا! ونُعْرِب عن تعازينا لنا فينا)! ومع حصار الموت البارد، وفى تلك الزنزانة الجليدية، ظل أهل مخيم الزعترى يحملون فى نفوسهم تلك العزة التى ترفض الدنيّة، حتى إن الطفل ليأبَى أخْذ قطعة الحلوى من بعض الذين جاءوا لمعاونة أهل المخيم، عندما سكتت الأنظمة الكبرى عن غوثهم وإعانتهم، ويوم جاءت لتتكلم كان كلامها باهتا أعجميا لا روح فيه! «حفنة من البطاطين وبعض المساعدات»! المحنة أكبر من غطاء، وأعظم من حملة سرعان ما تزول، المحنة فى أمة لا تتحرك إلا بعد أن يتحرك الموت!