يسمع صفير القطار يدوى فى المحطة، يحمل الحقيبة التى أعدتها والدته، يأخذه والده فى حضنه، يودعه مشدداً على أنه ترك رجلاً يدخل الجيش ليحمى الوطن، يهتز الابن لكلمات الأب، يشترى سريعاً بعض المأكولات والمشروبات من «كشك» بمحطة المنيا، حين توقف فيها القطار، قطار لا يحمل سوى عساكر الجيش، فى رحلة واحدة إلى مركز مبارك، وقع عليهم الاختيار ليدخلوا فى عباءة الرداء الأخضر. يضع أحمد خليفة حجازى، القادم من سوهاج، فى أذنه سماعات هاتفه، يبدأ فى سماع الأغانى، تزجية للوقت الطويل، القطار يمشى فى تؤدة، يخزن لكل قطار مكيف مفسحاً له طريق المرور، يسأل زميله عن سبب ركوبهم قطاراً مميزاً، وليس مكيفاً يقيهم البرودة التى تنخر عظامهم، يتأفف من كونهم ركبوا فى العربة الأخيرة حيث الهواء يصفر من الخلف. دون سابق إنذار، يقطع الحديث، ويغيب الصوت عن سماعات أحمد، يرتج القطار، يبدو كأن زلزالاً ضرب العربة وحدها، الجنود يتركون كراسيهم، مدفوعين خارج العربة، إلى قارعة الطريق، انفصلت عربتان من القطار، واصطدمتا بقطار للبضاعة، فى منطقة ما بين الحوامدية والبدرشين. «كنت راكب قطر الديش، ومترحل من سوهاج، ومش حاسس بردلى». بدموع لا تتوقف، يحاول أحمد خليفة حجازى مداراتها، لكنه يفشل، يحكى من على سريره كونه أصبح مجنداً، وأنه ركب القطار مع أصدقائه مرحلين، يسأل عن رفيقه أحمد رمضان، وكيف كان جالساً إلى جواره يتسامران، وبغتة، غاب السمر، ولم يعرف سبيلاً لأحمد، يسأل عما إن كان سيراه مرة أخرى، يريد أن يطمئن أهله عليه، ولا يعرف سبيلاً لذلك، يشكو غياب الرعاية الصحية، وخشيته أن يموت هنا بعيداً عن أهله. لا يوجد أطباء كفاية لعلاج المرضى، يتطوع بعض الأطباء من أهالى الحوامدية، لمعاونة المصابين، مثل الدكتور عمرو فؤاد، الذى عاون الممرضات فى مهمات علاج أحمد وغيره. «أخويا التوأم مش لاقيه، حد يطمنى عليه». جاء حمادة محفوظ، وعلى ظهره حقيبة معبأة بالملابس من مدينة القوصية بمحافظة أسيوط، برفقة أخيه التوأم أحمد، الذى أصر الجيش على ألا يفترقا إلا على سرير المرض. يحكى حمادة ما حدث قائلاً: إن البداية كانت مع تعطل القطار لفترة قبل الحادث، وحين سألوا قالوا مرة إنه يخزن لقطار آخر، وحين وقف ثانيةً قالوا إن هناك عطلاً جارٍ إصلاحه بعد التحرك، كان القطار يسير فى أمان «فجأة بقى يرتج كدا ولقيت نفسى مرمى على القضبان». يكرر طلبه بالبحث عن أخيه، لكى يستطيع أن يطمئن الأهل، ولا يلهج لسانه إلا ب«حسبى الله ونعم الوكيل». فى مستشفى البدرشين الحال لم يختلف كثيراً عن مستشفى الحوامدية، المستشفى أقل تجهيزاً، إذ لا يدخل ضمن نطاق المستشفيات العامة، دورات المياه لا تعمل، والممرضات لا تكفى المرضى، والسرائر غير مجهزة، والأرضيات غير نظيفة، يقول عبدالله محمد، عامل بالمستشفى، إنهم طالبوا المسئولين بتحويله لمستشفى عام لكى يحصل المستشفى على مزيد من الخدمات الطبية، لكن دون جدوى، ليقبع المستشفى بلا أدوات طبية كاملة تكفى المصابين ال 26 الذين حضروا للمستشفى. يشتكى سيد سعيد، أحد الأهالى المساعدين فى نقل المصابين والضحايا، من بطء تحرك الونش لرفع الأنقاض: «كان فيه واحد بيصرخ تحت الحديد عشان نطلعه، و40 راجل مش عارفين يطلعوه، عشان الونش اتأخر». يرقد عادل السيد محمود على سريره الملطخ بالدماء، من المنصورة قدم، قاده حظه العثر أن يركب القطار كمجند راحل إلى مركز مبارك للجنود، تخرج فى كلية التربية النوعية، ويرى أن مستقبله تعثر مع تجنيده، يحكى أنه لا يتذكر شيئاً من الحادث، وأن ذلك من نعمة الله عليه، يهاجم السكة الحديد والقائمين عليها: «دى مش سكة حديد تشيل بنى آدمين، مش عاملين أى قيمة للروح فى مصر، حرام عليكم إحنا فى 2013». أصيب عادل بكدمات شديدة فى صدره، وأشد منها فى القدم، لا يشعر بعظامه، ويتمنى أن يحمل من المستشفى غير المجهز، إلى مكان يحترم إنسانيته، ويقدر آدميته. لا يتوقف أهالى البدرشين عن مساعدة المصابين، قصى شريف يأتى بالطعام والمياه، فيما بدأ أفراد الشرطة دخول العنابر، لأخذ أقوال المصابين فى الحادث، ليغلقوا محاضرهم، ويدخل هانى عبدالرحيم، من أهالى البدرشين، بتليفونه المحمول الخاص، يمر بين عنابر المصابين، يمنحهم ما أرادوا من وقت بلا مقابل، لإعلام ذويهم بأنهم بخير، ونجوا من الحادث، ويطلبون حضورهم ليسروا عنهم مصيبتهم. يجلس محمد حسن أحمد على الأرض، يعمل كفرد أمن فى شركة خاصة بسوق العبور، وحين سمع عن الحادث، تذكر أن ابن عمه سيدخل الجيش فى هذه الأيام، حاول أن يبعد خاطر وجود ابن عمه فى الحادث، لكن بوغت بهاتف من أقاربه بسوهاج يطلبون منه سرعة الذهاب لمستشفى البدرشين، للمكوث بجوار حمودة السيد أحمد، حمودة من سوهاج، لا يعرف من جاء به للمستشفى، عاد إليه وعيه وهو راقد على سرير المستشفى لا يشعر بأن له ظهراً أو قدماً: «كنت قاعد على الكرسى لقيت فى حنكى الزلط». كان يعمل «فواعلى» باليومية فى الأرض، يعول أسرته، إذ إن والده متوفى «ماكنش نفسى أدخل الجيش عشان أقدر أعول أهلى. نفسى أطلع من الجيش وأشتغل أى حاجة بالحلال».