كانت القاهرة الكبرى مكدّسة بغابات من الكتل السكنية، ونحن نعبرها من كل الاتجاهات لنصل إلى مواقع إنشاء أضخم مشروع إسكان اجتماعى فى تاريخ مصر.. وفى الطريق كانت الأبراج التى تسد الأفق وتصادر البراح، والشوارع الضيقة المتربة والأرصفة المحطمة والجدران الكالحة للعمران العشوائى القبيح تحاصرنا من كل اتجاه، وتراكم فى نفوسنا مزيداً من الضيق والضجر والكآبة.. وما أن وصلنا إلى أول موقع تم اكتماله فى هذا المشروع العملاق حتى ألجمت الدهشة ألسنتنا.. واستولى علينا فى البدء عدم التصديق. «اذهب إلى هناك.. وأتحداك أن تعود كما ذهبت».. هكذا نصحنا أحد الأصدقاء، وهناك اكتشفنا -فجأة- أننا فى قلب ملحمة عمران غير مسبوقة فى تاريخ مصر.. كتائب هائلة من المهندسين والصنايعية والعمال تنتمى إلى عشرات شركات المقاولات، تعمل تحت إشراف مباشر من مسئولى وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة والهيئة الهندسية بالقوات المسلحة، لإقامة آلاف العمارات السكنية لمحدودى الدخل وللطبقة المتوسطة فى فترة زمنية قياسية لا يمكن لأحد أن يصدقها إلا إذا عاينها بنفسه. «الوطن» فى قلب أضخم مشروع إسكان اجتماعى فى تاريخ مصر فى قلب صحارى مصر الممتدة على مشارف مدنها التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية.. بدأت هذه الملحمة العمرانية قبل عام ونصف العام على الأكثر، بدأت واكتملت بعض مراحلها ونحن فى غفلة كاملة عنها، وقامت على أطراف هذه المدن أحياء كاملة يتم تسليمها منذ شهور لمواطنين ينتمون إلى فئة محدودى الدخل.. ولآخرين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، عاشوا عقوداً من أعمارهم بين مساكن شديدة القبح لا تدخلها الشمس ولا يجدون فيها مساحة تطل على سماء الله.. وها هم الآن يتوافدون غير مصدقين على وحدات سكنية كاملة التشطيب، خضعت قبل البدء فى تنفيذها لرؤية معمارية جديدة يتضافر فيها جمال النماذج العمرانية مع رحابة المكان، واتساع مساحات الخضار والتنسيق الحضارى المدهش الذى تعامل لأول مرة فى تاريخ «الإسكان الاجتماعى»، مع «الشقة» باعتبارها سكناً وراحة وبراحاً يحتضن ساكنيه ويمنحهم الرحمة. هنا.. فى أحياء مشروع الإسكان الاجتماعى الجديد، أنت فى «واحة عمرانية» تتيح لمن يسكنها الاستمتاع بالنماذج العمرانية الخلابة وبالمساحات الخضراء المفرحة، كما تتيح تعليم أطفاله داخل الحى من الحضانة إلى نهاية التعليم الأساسى، فى مبانٍ تعليمية لم ير أبناء هذا الشعب مثيلاً لها فى حياتهم، وهنا وفرت الدولة لكل «حى عمرانى» دار مناسبات ودور عبادة للمسلمين والأقباط، وحدائق تنتشر فيها «البرجولات» المجهزة بمقاعد خشبية، ونوادى وملاعب وتراكات للجرى والمشى والدراجات، ومولات صغيرة داخل كل مجاورة ثم مولاً تجارياً كبيراً فى وسط كل حى، بالإضافة إلى مساحات مجهزة لركن السيارات. وهنا.. فى أحياء مشروع الإسكان الاجتماعى، لا تتحقق ملحمة كتائب التعمير فى سرعة وجودة الإنجاز فقط.. ولكنها تتحقق أكثر فى الرؤية السياسية التى تقف خلف المشروع كله.. وهى رؤية تعيد لفقراء هذا الشعب الصابر حقه فى سكن لائق يفتح نوافذه صباحاً ليصافح فضاء مشرقاً صافياً ويستمتع بهواء نقى، ويطالع مشهداً لا يقل جمالاً عن «جمال السكن» الذى كان حكراً على من يملكون الملايين والمليارات!. أما الجانب الآخر فى الرؤية التى تقف خلف المشروع، فبإمكانك أن تكتشفها بنفسك إذا قضيت وقتاً كافياً مع كتائب التعمير المنتشرة الآن فى الصحارى المتاخمة لمعظم محافظات مصر ومدنها الجديدة التابعة لهيئة المجتمعات العمرانية، فقد أتاحت ملحمة البناء التى انطلقت قبل عام ونصف العام، مئات الآلاف من فرص العمل المباشرة، ومئات الآلاف مثلها من فرص العمل غير المباشرة، فهنا وهناك تعمل المئات من شركات المقاولات من الفئة الأولى وحتى الرابعة، وكل شركة تعمل الآن بكامل طاقتها وتبحث عن العمالة بجميع درجاتها من مهندسين وإداريين وصنايعية وعمال، بحثاً دؤوباً، حتى إن المنافسة اشتعلت بين الشركات على اجتذاب العمالة، لأن توقيتات تسليم العمارات كاملة التشطيب لا تقبل أدنى مراجعة أو تسويف مهما كانت الظروف، ولهذا تحولت أماكن العمل إلى خلية نشاط مدهشة، وإلى جدارية تزدحم فيها على مدّ البصر مئات سيارات النقل الثقيل والمتوسط والصغير، ومئات اللوادر والهراسات وتانكات المياه وعربات الخرسانة الجاهزة. وخلال الأيام التى قضيناها فى مواقع ومحافظات ومدن مختلفة، كان المشهد ثابتاً لا يتغير: تدفق هائل من السيارات المحمّلة يشير إلى تشغيل مئات مصانع الحديد والسيراميك والأسمنت والدهانات والطوب والأدوات الصحية والكهربائية، وعشرات السيارات التى تنقل مهندسى التخطيط والطرق والخدمات والبناء، ثم عشرات السيارات التى تحمل المشرفين والمراقبين من أجهزة الدولة المسئولة عن مراجعة كل مرحلة من مراحل البناء من الحفر وجسات التربة حتى إقامة العمائر وتشطيب وحداتها بالكامل وتسليمها لساكنيها على المفتاح. والمحصلة، كما قدّرتها الجهات المشرفة على هذه الملحمة، أن مشروع الإسكان الاجتماعى والمتوسط وفّر حوالى 1٫5 مليون فرصة عمل مباشر وغير مباشر، وكان سبباً فى إعادة عشرات المصانع المرتبطة بصناعة البناء إلى العمل بكامل طاقتها. أما الجانب الأعمق فى هذه الرؤية فيتعلق بنوعية الحياة التى تتوافر فى هذه الأحياء العمرانية الجديدة، وهى نوعية تحترم الإنسان وتتيح له بيئة سكنية تساعده على الارتقاء بوجدانه، فالطفل الذى سيولد ويتربى ويكبر هنا، سيختلف جذرياً عن أبنائنا الذين كبروا فى عشوائيات تفتقر إلى أدنى شروط الكرامة الإنسانية، وفى مساكن قبيحة اكتشفنا بعد عقود أنها كانت سبباً فى إشاعة الفوضى والعنف والكراهية، وأنها أنتجت إنساناً جارحاً فى معظم تصرفاته، ولكن عدوانيته لم تكن طابعاً أصيلاً فيه، بقدر ما كانت رد فعل طبيعياً على حرمانه من أبسط حقوقه. هنا.. حرص التخطيط والتنسيق العمرانى على أن يكون النموذج المعمارى للحضانة والمدرسة والمكتبة أقرب ما يكون إلى الحضن، وعلى أن تكون ألوان الجدران والأرضيات من الداخل والخارج مبهجة ومريحة، كما حرص على إتاحة أوسع مساحة خلاء مزروعة بالورود وأشجار الزينة وأشجار الظل لكل من ينشأ ويتربى فى هذه الأماكن.. والمؤكد أن الثمار التى ننتظرها من هذه البذور الجديدة ستكون أكثر رحابة وإنسانية من الثمار المرّة التى بعثرتها المساكن العشوائية القبيحة فى نفوسنا.