الإغراق الإفتائى المصحوب بابتذال جغرافى، الذى لا يخلو من انتهاك معلوماتى، مشوب بإبهار ادعائى لعلوم القانون الدولى والترسيم الإقليمى والتقسيم البحرى والعهود والمواثيق الدولية، لم يعد شغلى الشاغل أو همى الضاغط. فقد غلب الخيال الواقع، بل أطاح به وصرعه وكبس على أنفاسه. وأصبح الواقع الافتراضى وما يمسى بمواقع الاتصال الاجتماعى أعتى أثراً وأبشع وقعاً وأعنف قوة من حيث قدرته على إيهام سكانه بقوتهم الضارية وبأسهم الشديد وعلمهم العميق. والمشار إليه بالطبع هنا هو أحدث ما وصل إليه عالم الخيال غير العلمى والإفتاء غير المنطقى والإعلام غير العلمى الذى وحد بين الصفوف وساوى بين الرؤوس. وللعلم فإن المقصود هنا ليس فقط أصحاب هاشتاجات مؤيدة للرئيس وداعمة للنظام ومصدقة للتاريخ المسرود على هذا الجانب حيث تيران وصنافير سعوديتان مائة فى المائة، ولا أصحاب الهاشتاجات المعارضة للرئيس والمناهضة للنظام والمكذبة للتاريخ المسرود هناك والمتمسكة بتلابيب التاريخ المسرود على الجانب الآخر حيث تيران وصنافير مصريتان مائة فى المائة، ولا المهللين لهؤلاء أو المطبلين لأولئك أو المستفتين قلوبهم لتصديق الرواية الرسمية أو المصلين صلاة استخارة لتميل قلوبهم للرواية العنكبوتية. فالمقصود هنا هو الجميع، لا سيما أن حالة الهرج الإفتائى والمرج المعلوماتى لم تعد قاصرة على شعب الإنترنت المرابط أمام الشاشات، والمنتقل منها إلى الشاشات الفضية حيث عمليات الطحن والهرس الفضائية اليومية الليلية، ومنهما إلى أثير الشارع فى المواصلات العامة والمقاهى وأماكن العمل (فى حال كان هناك من ما زالوا يعملون). وبنظرة سريعة ولمحة عميقة يبدو تماماً أن مصر تحولت إلى كتلة من اللهب الإفتائى وقنبلة عنكبوتية الصنع تتفجر شظاياها فى وجوه الجميع بدءاً بأولئك الضالعين فى شئون القانون الدولى والترسيم الإقليمى مروراً بالقائمين على أمر الحكم وانتهاء بالرئيس نفسه ومعه الشعب برمته. وبعيداً عن الخوض فى السجال المحموم الدائر حول مصرية الجزيرتين أو سعوديتهما، فإن المؤكد أن طريقة وتوقيت الإعلان كان فيهما سم قاتل. والمؤكد أيضاً أن من يعرف أبجديات «حروب الجيل الرابع» التى يتحدث عنها كثيرون فى سنوات ما قبل هبوب رياح الربيع العربى العاتية، يعلم علم اليقين أن الطريقة التى عرف بها المصريون ما جرى ما هى إلا فرصة على طبق من ذهب لإشعال ساحة الحرب المشار إليها دون عناء أو جهد. ولأن «إللى حصل حصل» كما يقولون، حيث تم الإعلان بهذه الطريقة فى هذا التوقيت اللذين جانبهما التوفيق، فإنه من المفيد دراسة ما جرى فى المجتمع المصرى جراء هذا الحدث. أولاً: كثيرون لم يسمعوا من قبل عن الجزيرتين لكنهم وجدوا أنفسهم وقد تملكهم الفزع من أن «أرضاً مصرية» يتم فقدانها، وفى ذلك أمارات وطنية إيجابية جداً. ثانياً: غالبية المصريين بطبقاتهم وفئاتهم وأنواعهم وحد بينهم هذا الشعور الوطنى بالفقدان، لكن سرعان ما عادت الغالبية إلى سابق تحزباتها وانتماءاتها مستخدمة الجزيرتين وسيلة للهبد والرزع فى بقية الأطياف السياسية (والدينية). ثالثاً: يمكن تقسيم المصريين غير الحزبيين فى ضوء أزمة الجزيرتين إلى ثلاث فئات: الداعمون للرئيس بغض النظر عن الأداء، وهؤلاء ابتأسوا فى البداية لكن سرعان ما تشبثوا بثقتهم الكاملة وإيمانهم العميق بوطنية الرئيس، والمناهضون للرئيس من ثوريين أدمنوا الميدان واعتنقوا التغيير لأجل التغيير، ونشطاء امتهنوا النشاط العنكبوتى أو حتى المؤسسى، وبعض من مواطنين كانوا يفضلون ألا تكون المنافسة على حكم مصر مقتصرة على شخص ذى خلفية عسكرية وآخر ذى خلفية ذات خلطة جهنمية حيث فخفخينا السياسة والدين وتحديداً «الإخوان المسلمين»، والفئة الثالثة هى المواطنون الذين يتركون أنفسهم نهباً لهذا تارة وذاك تارة، حيث قوة الإقناع هى المعيار وملكة الترهيب أو التحبيب هى المقياس. رابعاً: رغم أهمية ملف الجزيرتين إلا أنه مقارنة بمتاعب الحياة اليومية الضاغطة حيث غلاء أسعار وأزمة دولار وتراكمات تاريخية من صحة وتعليم ومرافق وغيرها، إلا أن الغالبية تظل أسيرة مشكلاتها الآنية، حتى وإن هجرتها إلى تيران وصنافير بصفة مؤقتة. خامساً: أظهرت أزمة الجزيرتين قدرة مصرية فائقة على التنقيب فى أغوار الأرشيف، والبحث عن مستمسكات التاريخ، والغوص فى أعماق المواثيق والمعاهدات والاتفاقات التى كانت حتى الأمس القريب شأناً من شئون أولى الأمر ومسألة من مسائل أصحاب المناصب العليا والتخصصات الدقيقة. سادساً: أظهرت الأزمة كذلك القوة الهائلة والسطوة الكاملة لأدوات «لايك» و«شير» و«إعادة التغريد». فالقائمون على البحث والتنقيب يظلون قلة قليلة، سواء أولئك الذين خرجوا بمستندات تثبت الملكية المصرية، أو أولئك الذين ظفروا بمواثيق تبرهن على الملكية السعودية. أما القدرة على الانتشار عبر ملايين المستخدمين والاندلاف إلى دوائر نقاش ملايين أخرى، فتظل إنجازاً من إنجازات إعادة التدوير العنكبوتى. سابعاً: أثبتت الأزمة أيضاً امتلاك المصريين عيناً فاحصة وقدرة مدققة ليس لها مثيل. من حضر الاجتماع؟ ولماذا اختارت الرئاسة هؤلاء وليس أولئك؟ وكيف جلسوا؟ ولماذا نظر فلان هكذا؟ وكيف أمسك علان بعود الجرجير على مائدة الغداء؟ والمؤكد أن المصريين يحبون التفاصيل الدقيقة. ثامناً: لكن الوجه الآخر للإغراق فى الإفتاء وادعاء المعلومات والغوص فى أعماق من ارتدى ماذا ولماذا اسمه المبالغة والتأثير السلبى على مناحٍ أخرى تحتاج من الوقت والجهد والأعصاب ما يسلبها هذا التدقيق وذلك الإغراق. تاسعاً: أزمة الجزيرتين إن دلت على شيئين رئيسيين، فهما سوء تقدير رسمى وفوضى رد فعل شعبى، سواء كانت الجزيرتان مصريتين أو سعوديتين.