قبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة كانت هناك أحلام عريضة بأن تتحول هذه البقعة الصغيرة القابعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى سنغافورة الشرق، لتكون منطقة تجارة حرة وملتقى للتبادل التجارى، نظراً لفقرها فى الموارد وصغر مساحتها قياساً باكتظاظها الكبير بالسكان، وبعد أن أحكمت «حماس» قبضتها بالسيطرة الكاملة عليها تبددت تلك الأحلام وتحول القطاع إلى كابوس يؤرقه الحصار المرير ويعصف بحياة سكانه، يتنازعه صراع السلطة والسيطرة بين قطبى الخصومة فمن جهة السلطة الفلسطينية المفترض أن تبسط سيطرتها على الحكم و«حماس» التى فرضت سيطرتها بالفعل، ومن جهة أخرى إسرائيل التى لا تتردد فى شن الحروب ضده والإمعان فى تجويع وتشديد الحصار على أهله. كثر الحديث فى الآونة الأخيرة حول بناء ميناء ومطار فى غزة ربما يحلها من حصارها الذى ضرب عصب حياة الغزيين ومنعهم من التواصل مع العالم الخارجى، فلم يعد باستطاعتهم التنقل أو السفر خارج القطاع إلا بشق الأنفس نظراً لاستمرار إغلاق المنفذ الوحيد لهم مع الخارج «معبر رفح»، وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية قد أشارت إلى أن أطرافاً إسرائيلية تدرس مقترح «إسحق تشوفا»، كاتب إسرائيلى، لحل أزمة قطاع غزة ببناء جزيرة قبالة القطاع يقام عليها ميناء ومطار وتديرها الولاياتالمتحدة أو الناتو، وحظى بموافقة وزير المواصلات الإسرائيلى الذى أبدى حماسه للمقترح. غير أن هذا الطرح الذى يبدو حلاً لمشكلة عصية يعانى منها أهالى القطاع، لم يكن طرحه فى إطار تقديم الحل السياسى الجذرى لقطاع غزة استجابة لحقوق أساسية للفلسطينيين، يجب على إسرائيل الاعتراف بها والتعامل معها كحق من حقوق الشعب الفلسطينى وليس منة تمنحها له، بل آثرت أن يكون مجرد حل تسكينى يخفف الانتقاد والضغط الدولى على إسرائيل باعتبارها تحاصر غزة من جهة، ومن جهة أخرى تمكن الإسرائيليين من فك الارتباط بشكل كلى مع القطاع فى حضور رقابة دولية سواء كانت الناتو أو الولاياتالمتحدةالأمريكية لضمان الإجراءات الأمنية التى تحقق أمن إسرائيل، خاصة إذا ما أعطى هذا الحل مساحة من الرخاء الاقتصادى الذى سيعيد الحياة لشكلها الطبيعى، ويقلل حجم الفقر والبطالة، الأمر الذى سينعكس على حالة الأمن فى المنطقة، وبالذات مع إسرائيل. هذا الحل الذى تسعى تركيا إلى انتزاع الموافقة عليه من خلال مفاوضاتها مع إسرائيل ضمن شروط عودة العلاقات بينهما ولأنها دولة فى حلف الناتو أيضاً، يلقى دعماً كبيراً من «حماس» ورفضاً قاطعاً من السلطة الفلسطينية، المشروع بالنسبة ل«حماس» حل مثالى لرفع الحصار الإسرائيلى وقبضة الاحتلال عن غزة ليصبح حراً فى علاقته بالعالم الخارجى وهو أيضاً وسيلة فعالة للتمكين والسيطرة، السلطة الفلسطينية من جهتها تعارض بشدة إقامة الميناء الذى تراه يتناقض مع المصالح الوطنية الفلسطينية العليا ويشكل انفصالاً بين غزة والضفة الغربية بلا عودة ويقضى على أى أمل فى إنهاء الانقسام، فضلاً عن أن مشروعاً كهذا يربط بين قبرص التركية، غير المعترف بها من المجتمع الدولى، وغزة، إنما يضر بالعلاقة الوثيقة التى تجمع بين السلطة وقبرص الموحدة، خاصة أن قبرص وقفت مع الفلسطينيين فى أحلك الظروف، وبالتالى إقامة الميناء هو مس بالعلاقة الفلسطينية القبرصية! غير أن الأهم من كل ذلك، فى حال تنفيذ المشروع، هو تنصل دولة الاحتلال من مسئوليتها تجاه القطاع وإلقاء أعبائه حلف ظهرها لتخلى طرفها نحوه، وطالما كان ذلك حلماً بالنسبة لها منذ احتلال الأراضى الفلسطينية لما يشكله القطاع من مخاطر أمنية وأعباء اقتصادية على إسرائيل، كما فكرة أن «حماس» تحكم وتسيطر على غزة لم تعد تقلق إسرائيل، طالما بمقدورها الحفاظ على علاقة عسكرية وأمنية معه توفر لها سبل الردع وقتما شاءت، وبعبارة أخرى يشكل تهديداً كبيراً على بنية النسيج الوطنى الفلسطينى كونه يرسخ لفصل مصير قطاع غزة السياسى عن باقى الأراضى الفلسطينية ويعزله فى خريطة أخرى تريد إسرائيل نسيانها إلى الأبد.