"ليتَ" أسماءَ تعرفُ أنّ أباها صعدْ.. لم يمتْ.. هل يموتُ الذي كان "يحيا".. كأنّ الحياةَ أبدْ.. وكأنّ الشرابَ نفدْ.. و كأنّ البناتِ الجميلاتِ يمشينَ فوق الزبدْ.. عاش منتصباً، بينما ينحني القلبُ يبحثُ عما فقدْ " .. هذه الكلمات كانت رثاء "شجرة البرتقال الثالثة" الشاعر امل دنقل أحد أضلاع صداقته مع الشاعر الجنوبى "الخال " عبد الرحمن الأبنودى وهى الصداقة التى ظلت بين شجيرات البرتقال التى أثمرت لنا شعراً ونثراً وأدباً تنهل من ثمراتهما أجيال بعد أجيال. في ذكرى ميلاده ال 76 التي تمر علينا اليوم نسبح فى رحلة القاص الجنوبى يحيى الطاهر عبد الله التى لم تكمل عامها ال 43. ولد يحيى الطاهر عبد الله في 30 أبريل عام 1938 بقرية الكرنك بمحافظة الأقصر، ومنذ نعومة أظافره وفى سن الثامنة توفيت والدته وتولت خالته والتي أصبحت زوجة أبيه فيما بعد ، تربية الابن الثانى فى ترتيب إخوته الثمانية. نشأ يحيى الطاهر فى بيت يقدس اللغة العربية ويحتفى بأعمال الرواد امثال" العقاد والمازنى " فتربى يحيى على تذوق حلاوة اللغة العربية التى لقنها له والده الشيخ المعمم الذى عمل بالتدريس فى إحدى المدارس الإبتدائية بالقرية، وتلقى يحيى دراسته بالكرنك حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة وعمل بوزارة الزراعة لفترة قصيرة لعدم تقدير مدرائه فى العمل بموهبته التى كان يتمتع بها وهو ماقاله فى إحدى لقائته النادرة فترك وظيفته برغم حاجته الماسة الى مرتبه الثابت مضحياً بالراتب. فى الحادى والعشرين من عمره انتقل الشاب الموهوب عفيف النفس الى محافظة قنا باحثاً عن " شجرتيه الكبيريتن " - عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل- ليقف بجانبهما رافعين الرؤوس بالشعر وبالقصة وبالمعرفة فى وجه من أستهان بموهبته، كان ذلك في عام 1959 وألتقى بهما وقامت بينهم صداقة طويلة. في عام 1961 كتب يحيى الطاهر عبد الله أول قصصه القصيرة "محبوب الشمس" ثم كتب بعدها في نفس العام "جبل الشاى الأخضر" ، وفي العام 1964 انتقل يحيى إلى القاهرة وكان قد سبقه إليها صديقه عبد الرحمن الأبنودى في نهاية عام 1961 بينما أنتقل أمل دنقل إلى الإسكندرية، أقام يحيى مع الأبنودى في شقة بحى بولاق الدكرور وفيها كتب بقية قصص مجموعته الأولى " ثلاث شجيرات تثمر برتقالا". ظل أبن الجنوب يبحث عن نافذه لكتاباته وأعماله متردداً على مقهى " ريش" التى كانت ملتقى لكبار الادباء والشعراء فى مصر ، وفى أحدى الايام وجد يحيى الأديب الكبير "يوسف أدريس" وقص عليه بعض من أعماله ولما وجد أدريس فى يحيى الشاب النحيل مشروع كاتب وقاص لم يتردد فى تقدمه في مجلة "الكاتب" ونشر له مجموعة "محبوب الشمس" ، كما قدمه أيضا عبد الفتاح الجمل في "الملحق الأدبي" بجريدة المساء، وبدأ نجم "يحيى" يلمع وسط نجوم كتاب القصة فى ذلك الوقت. تزوج يحيى الطاهر من أخت صديقه الناقد عبد المنعم تليمة وأنجب بنتين هما أسماء وهالة ومحمد وقد توفى وهو صغير، وبرغم وفاة الابن لم يمتنع الأب "الطاهر" من الكتابة للأطفال وبدأ يكتب بعض القصص .. " عشت أياماً طيبة هنية فى بطن الأرض، ثم اطلقت سيقانى وتكاثرت أوراقى وكبرت، وطلع اللوز وكبر، وكان أكثر ما أحببته فى الدنيا عندما رأيتها هو الشمس . ثم تفتح النوار وهاجمتنى الدودة..! ودافع عنى "أمين عبد القادر"، دفاع الأبطال، وهزم الدودة، وجاء أوان الجمع واشترك فى جمعى بنات وصبيان كثيرون، وفارقت القرية بعد أن سلمنى"أمين" للجمعية التعاونية وقبض ثمنى" .. كانت هذه هى كلمات يحيى الطاهر عبد الله فى سطور قصته "مذكرات قميص عجوز جداً" التى نشرت فى مجلة سمير فى الستينيات، وأعادوا نشرها عام 1995. ليحيى الطاهر عبد الله العديد من الأعمال الإبداعية المتميزة من أهمها: "ثلاث شجيرات تثمر برتقالا – 1970، الدف والصندوق – 1974، الطوق والأسورة – 1975 وهى القصة التى تحولت الى فيلم سينمائى بنفس العنوان وإخرجه "خيرى بشارة" وانتج عام 1986، أنا وهى وزهور العالم – 1977، الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة – 1977، حكايات للأمير حتى ينام – 1978، تصاوير من التراب والماء والشمس – 1981، حكاية على لسان كلب - قصة طويلة نُشرت في الأعمال الكاملة بعد رحيله- ، "الرقصة المباحة" وهى مجموعة قصصية نُشرت في الأعمال الكاملة التى نشرتها له دار "المستقبل العربى" وكان قد أعدها الطاهر قبل وفاته ، وصدرت طبعة ثانية له عام 1993 . ترجمت أعمال يحيى الطاهر عبد الله إلى الإنجليزية وقام بترجمتها دنيس جونسون ديفز وإلى الإيطالية والألمانية والبولندية. توفى يحيى الطاهر عبد الله يوم الخميس 9 أبريل 1981 قبل أن يتم الثالثة والأربعين بأيام في حادث سيارة على طريق القاهرة الواحات، ودفن في قريته الكرنك بالأقصر، رثاه الكثير من الكتاب والشعراء، فكتب يوسف إدريس عنه "النجم الذى هوى" بجريدة الأهرام عام 1981، ورثاه الخال الأبنودى ب" عودة تحت نعش يحيى الطاهر عبد الله".