حرصت على مشاهدة فيلم هالة لطفى " الخروج للنهار " فى إطار عرضه ببرنامج الأفلام الأولى ببانوراما الفيلم الأوربى، كنت شاهدته فى عرض بمهرجان معهد جوته منذ عدة شهور، ولم أتفاعل معه حيث أحسست بذهنيته الشديدة، وبالانفصال بين مشاهد الخارج والداخل به. أعرف المخرجة هالة لطفى عن قرب، وأتابع كل أعمالها القصيرة والتسجيلية، يمكن القول أن هناك درجة من درجات الصداقة تقترب من القرابة، وكما هو معروف فالطبيب النفسى لا يمكنه أن يعالج قريبا له، والأقارب من الدرجة الأولى لا تقبل شهادتهم بالمحاكم ، وكذا الناقد من الصعب أن يحكم على عمل لشخص تريطه به علاقة قريبة. لم أكتب عن الفيلم عند مشاهدتى الأولى له، فقط تناقشت مع صديقتى الناقدة والممثلة سهام عبد السلام، وتباينت ردود أفعالنا، سهام أعجبها الفيلم وكانت مرشحة لدور الأم، وقالت وقتها إنها لم تكن لتؤديه بهذه الكفاءة لمن قامت بالدور، وقالت لى " شوفيه تانى ".حسنا فعلت، فالعرض الثانى كانت النسخة فيه على درجة عالية من الجوده توفرها ماريان خورى فى عروضها صوتا وصورة، كان خبر حصول محمود لطفى مدير تصوير الفيلم فى ذهنى وأنا أشاهد الصورة المممتازة للفيلم ودرجاتها الهادئة التى توضح اقتصادا مقصودا فى وحدات الإضاءة وأدوات التصوير. الإيقاع له فلسفته وضرورته المتوافقة مع السرد المكثف لحالة المرأتين فى معاناة رعاية الرجل المريض. الديكور والاكسسوار يعكس حالة من التقشف وقدر من المبالغة فى عرض الواقع بلا تجميل. واقعية أقرب إلى الطبيعية تعكس حالة من القسوة المقصودة، هذه هى حياتهم وهذه هى معاناتهم. لا تسمح هالة ببصيص من مشاعر رومانسية ممكن أن تتسلل إلى المشاهد، حين يأتى المجند قريب الأم تستقبله الابنة بضيق لا تخفيه، عبئا مضافا إلى عبء رعاية الأب ، هالة تحذف لحظات إنسانية بمكن أن تكون لطيفة، إعداد الطعام وتناوله ، ونشاهد فقط رحيل الضيف وجمع الأطباق، الجزء الممل والمضجر من أى عزومة. وأثناء ذلك توبيخ الابنة لأمها التى تعزم على المجند الغلبان، وكأن ما تعانيه لم يترك لديها مساحة لتجامل أحدا أو تود قريبا. يحتوى الفيلم على ثلاثة مشاهد للفتاة فى أماكن مفتوحة خارج البيت والمستشفى، المشهد الأول مانفستو المخرجة حول الزيف الدينى وتخاريف المجتمع، يحظى المشهد بإعجاب عدد كبير من المتلقين، يقف بينى وبينه قصديته فى السياق وكونه من وجهة نظر المخرجة وليس كرد فعل للشخصية، وكأن هالة هى التى ركبت الميكروباس وليس الفتاة بطلة الفيلم. ألم أعترف بصعوبة حيادى من عمل أتصور أننى أعرف مؤلفته عن قرب؟. المشهد الخارجى الثانى والذى مر مرور الكرام ولم يتوقف عنده أحد أتصور أنه عصب الفيلم ومفتاح تفسير دوافع الشخصية وشرح حالتها البائسة، تتصل من تليفون بالشارع فى موقع مميز بالقاهرة القديمة، الحبيب المفترض غير مهتم. نسمع فقط ردودها عليه. اختارت المخرجة أن تصورها عن بعد، غالبا كانت الكاميرا مخفية حتى تتمكن من التصوير دون فضول معتاد من المصريين، وعلى الأرجح كان هذا اختيارها فى جميع الأحوال حتى لا يتحول المشهد إلى ميلودراما ممجوجة تحاشتها هالة لطفى على مدار العمل. تلهف الفتاة لمقابلة الرجل المجهول يتناقض مع مكالمة فى مشهد آخر : ما تتصلش بى تانى احنا ما كانش بينا حاجة أصلا. لتتواصل الصدمات للمشاهد الذى ترك ثقافته فى المنزل قبل مشاهدة الفيلم وتعامل مع فيلم بنية صادقة للتفاعل معه بشكل إنسانى بعيدا عن فلسفات أو قضايا كبرى. ولكن القضية الأزلية حول موت الأب فى الأدبيات النسائية تطل برأسها وتفرض نفسها واضحة جلية مع مشهد النهاية حيث الأم تنجد بنفسها مرتبة الأب والابنة تسأل ببساطة هندفن بابا فين؟ فاتنى أن أذكر أن المشهد الخارجى الثالث كان محملا بكثير من وصف حالة البلد مع سائق الميكروباس المطارد من الداخلية، يلقى بالفتاة فى منتصف الطريق ليلا دون أن يمارس المعتاد من تحرش متوقع بها، مرة أخرى وليست أخيرة تكسر التوقعات المعتادة لمشاهد يحمل تراثا من سينما سائدة وحسنا فعلت. ويكتمل توهان الفتاة فى القاهرة ليلا فى مكان نسمع منه عن بعد إنشاد صوفى وبقاءها حتى الفجر أمام بحيرة من منطقة الفخارين، صورة محايدة أيضا بلا تركيز على ملامح الفتاة الواقفة وظهرها لنا. لماذا قدمت هالة لطفى هذا الفيلم تحديدا، وقدمته لمن، ولأى شريحة من المشاهدين؟ بالطبع هى كمبدعة تمتلك حقها فى الاختيار وأنا كمتلقى أمتلك حق التعبيرعن قراءتى للفيلم دون أن أحملها مسئولية شرحه أو تأويله الذى كتبته وصرحت به فى ندوة تلت عرض الفيلم بسينما جالكسى، وكان شرحا عاطفيا وجدته شديد التناقض مع عمل ذهنى تام لايقصد منه التعبير عن الرثاء لموت الأب، بل بيان حتمية موته لتستمر الأم "حياة " فى حملها " لمسئولية الابنة " سعاد"، علهما تكملان الحياة معا فى سعادة وراحة بعد موت الأب.