"نحن مثقلون بالديون والأثام والعرب بطريقتهم التي يعيشون بها الآن لن يضربهم اليهود وحدهم، بل ستضربهم كلاب الأرض كلها".. بتلك الكلمات الموجعة لخص العالم الإسلامي الراحل الشيخ محمد الغزالي حال العرب والمسلمين من الانتكاس والعيب الذي يرجع إلى ذاتنا المثقلة بالذنوب والخطايا فكبرياء السلطة وذل الجماهير وركود الرأي العام وانشغال العلماء بأسقط القضايا في بلادنا، فبأي وجه يلقى المسلمون الناس؟ ثم بأي وجه يلقون ربهم، ثم نراه يصرح بالحقيقة المفجعة ومأساة العرب الحاضرة أن أعداءنا يكثرون ولا يقلُّون ويقوون ولا يضعفون، أما نحن فليست مصيبتنا من قلّة السلاح ولا قلة المال ولا من قلة العدد، إنما مصيبتنا الكبري نابعة من أنفسنا وحدها وما لم تتغير النفوس فلن يتغير ما بنا، فإذا كنا راضين عن أنفسنا – وتلك أحوالنا – فستبقى هذه الأحوال حولنا كما يبقى الظل الأعوج مع العود الأعوج. هكذا تحدث الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الذي مرت الذكري السابعة عشر علي رحيله مرور الكرام كالعادة عند الاعلام المصري الذي يرتقي بالتافهين والمحرضين علي حريق الوطن إلي عنان السماء ويلقي بالتجاهل والنسيان علي القمم والأعلام من أبناء مصر الأصليين . لا أحد ينكر ما بذله الشيخ الغزالي من جهود حثيثة في مجال التمكين لدين الله تعالى، ومجال التثقيف والترشيد والنهوض بالمجتمعات الإسلامية عامة، ولكن جهوده في التأصيل ومنهجه المتفرد في الدفاع عن الحق وحراسة مباديء الإسلام وأفقه الواسع وذكاؤه الإجتماعي وعلاقاته الممتازة مع المسؤولين في مختلف مستوياتهم وروحه السمحة وكثير من الفضائل النفسية والعاطفية، فضلا عن آثاره الكثيرة التي تركها، فقضية التحرير عند الشيخ محمد الغزالي تبدأ بوعي وتنتهي بفعل، وخيار المقاومة ليس مشروعاً مسلحاً فحسب، بل ثقافة ناقدة، ولذلك عبر الشيخ الغزالي عن الثقافة بأنها جيش غير منظور يصل إلى أهدافه المرسومة في سكينة وسلام، ذلك أن سهام الأفكار أجدى من رصاص النار. وكثيرا ما توقف الإمام عند أزمتي الشوري والديمقراطية في بلادنا فقال غير ذي مرة "لا توجد شوري في العالم الإسلامي ومع هذا البلاء، فقد رأيت منتسبين إلى الدعوة الإسلامية يصورون الحكم الإسلامي المنشود تصويرًا يثير الاشمئزاز كله فقال البعض منهم إن للحاكم أن يأخذ برأي الكثرة أو رأي القلة، أو يجنح إلى رأي عنده وحده، أتلك هي الشورى التي قررها الإسلام؟ فما الاستبداد إذن؟ ووضع البعض الأخر دستورًا إسلاميا أعطى فيه رأس الدولة سلطات خرافية لا يعرفها شرق ولا غرب وعندما بحث الغزالي عن الأسباب وراء ذلك توصل إلي معايب ثلاثة تلتقي فيه، أولها وأخطرها علي الإطلاق سوء الفهم الشديد لمعنى الشورى، والغباء المطلق في إنشاء أجهزتها المشرفة على شئون الحكم والمعضلة الثانية تكمن في حالة العمى عن الأحداث التي أصابت المسلمين في أثناء القرون الطوال والتي نشأت عن استبداد الفرد، وغياب مجالس الشورى، أما العيب الثالث والذي لا يقل خطورة عن سابقيه، فيتمثل في الجهل بالأصول الإنسانية التي نهضت عليها الحضارة الحديثة والرقابة الصارمة التي وضعت على تصرفات الحاكمين. وبإطلالة سريعة علي تاريخ وكتابات وآراء الشيخ الجليل يتبين لنا كيف ساهم العلامة الجليل في تطور أفكارنا نحو الاعتدال والوسطية وكيف ساهم في صياغة العقل المسلم بطريقة عميقة ومنظمة وفق أولويات تحتاجها الأمة وليس وفق قضايا فرعية تلي في الترتيب كثير من القضايا الهامة، وكيف كان من أبرز الدعاة المناهضين للتشدد والغلو في الدين، حتي منحه الامام حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المسلمين لقب "أديب الدعوة" الذي تسائل أكثر من مرة عن أسباب تخلفنا -نحن العرب والمسلمين- فقال " أين بوارجنا وغواصاتنا التي تسير في المياه وأين طائراتنا التي تطير في السماء كل هذا وجد ولكنه من صنع الغرب، فما الذي صنعناه نحن إذن سوي الكلام عن هذا وذاك والسبب أننا فهمنا ديننا فهما مقلوبا وعجزنا عن فهم القرآن وبدأنا نفكر فيه تفكيرا أعمي رغم أن كل ما نسمعه في كتابنا العظيم سنحاسب عليه يوم القيامة، بإختصار لقد أسأنا إلي السماء وإلي كتابنا المقدس بتصرفاتنا الصبيانية غير الرشيدة". وعن طفولته يقول الإمام محمد الغزالي عن نفسه "لقد كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلاوة في غدوي ورواحي، وأختم القرآن في تتابع صلواتي، وقبل نومي وفي وحدتي وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسي في تلك الوحدة الموحشة، والتحق بعد ذلك بمعهد الإسكندرية الديني الإبتدائي وظل بالمعهد حتى حصل منه على شهادة الكفاءة ثم الشهادة الثانوية الأزهرية، ثم إنتقل بعد ذلك إلى القاهرة والتحق بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف عام 1937 وبدأت كتاباته في مجلة "الإخوان المسلمين" أثناء دراسته بالسنة الثالثة في الكلية تعرف على الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان وظل الإمام يشجعه على الكتابة حتى تخرج بعد أربع سنوات في سنة وتخصص بعدها في الدعوة والإرشاد حتى حصل على درجة العالمية سنة في عام 1943 وعمره ست وعشرون عاما. وبدأت بعدها رحلته في الدعوة من خلال مساجد القاهرة وقد تلقى الشيخ العلم عن عدد من المشايخ الكبار أمثال الشيخ عبد العظيم الزرقاني والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة والدكتور محمد يوسف موسى وغيرهم من علماء الأزهر الشريف، وفي كتابه البليغ "سر تخلف العرب والمسلمين" يؤكد الغزالي رحمه الله أن السبب في ذلك نابع بصورة أساسية من فهمهم الخاطئ للعقيدة والشريعة الاسلامية وفقه المعاملات والعبادات ومدي حركتهم مع السياسة المحلية والإقليمية والعالمية وأخطائهم الكثيرة، فالحضارة الإسلامية التي تصون الأعراض والأخلاق يكتب الله لها مؤهلات البقاء أما تلك الأنظمة التي تترك الناس ترعي في الشهوات وتغرق في الشبهات ولا تقول لهم لم، هؤلاء محكوم عليهم بالفناء والإنهيار والإندثار ويستخلف الله غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم كما قال في كتابه "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". من منا ينسي كلماته الباقية علي مدي الزمان وعبر العقود والمحفورة في قلوب المخلصين لهذا الدين الإسلامي حينما قال في كتابه "الطريق من هنا": إن الشعوب هي الأصل أو هي المرجع الأخير وعلى بغاة الخير أن يختلطوا بالجماهير، لا ليذوبوا فيها وإنما ليرفعوا مستواها ويفكوا قيودها النفسية والفكرية ٬ قيودها الموروثة أو التي أقبلت مع الاستعمار الحديث، والإسلام اليوم يعانى من أمرين أولهما تصور مشوَّش يخلط بين الأصول والفروع وبين التعاليم المعصومة والتطبيقات التي تحتمل الخطأ والصواب وقد يتبنى أحكاما وهمية ويدافع عنها دفاعه عن الوحي، ولست ألوم أحدا استهان بنا أو ساء ظنه بديننا مادمنا المسئولين الأوائل عن هذا البلاء ٬ إن القطيع السائب لابد أن تفترسه الذئاب. كما شخص الغزالي رحمه الله الداء بعقل جراح اسلامي عريق وخبرة عالم كبير في كتابه البديع "الفساد السياسي" ووضع له الدواء والعلاج بمهارة عالية في الوقت ذاته، فقال " إن الفساد السياسي مرض قديم في تاريخنا، هناك حكّام حفروا خنادق بينهم وبين جماهير الأمة لأن أهواءهم طافحة وشهواتهم جامحة ولا يؤتمنون على دين الله ولا دنيا الناس ومع ذلك فقد عاشوا آمادًا طويلة، مازلت أعتقد أن ثروتنا من المواهب الثمينة والكفاءات المثمرة كبيرة ٬ وأن حظوظنا من تلك المعادن النفيسة لا تقل عن مثيلاتها لدى الدول العظمى، كل ما هنالك من فروق أن غيرنا انتفع بما يملك٬ وأتاح الفرص لبقائه ونمائه٬ وعملت الحريات الموفورة عمل الأشعة في إنضاج الزرع٬ وعمل المياه فى إمداده بالنضارة والحياة. أما فى أرجاء العالم الإسلامى فإن الحكم الفردى من قديم الزمان أهلك الحرث والنسل٬ وفرض ألوانا من الجدب العقلى والشلل الأدبى أذوت الآمال٬ وأقنطت الرجال والغريب أن هذا التخريب يناقض مناقضة ظاهرة توجيهات الإسلام فى كل ناحية فهل فى دين الله أهم من العقيدة؟ بالطبع لا، بل إن الاعتقاد فى المنطق القرآنى نبت وسط حرية البحث والتأمل وطلب البرهان ولننظر إلى حديث القرآن عن المشركين٬ ونتأمل فى مساره٬ يقول الله سبحانه وتعالي "أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي"، وليس هناك مجال لإلغاء العقل ورفض الرأى الآخر٬ بل لا بد من تبادل الحجج ونشدان الحقيقة وحدها، لا مكان لتكميم الأفواه وفرض وجهة نظر واحدة، فصاحب الصواب لا يهاب النقاش وصاحب الحق يغشى به المجالس ويقرع به الآذان، المأساة تحدث من مبطل يريد بالعصا أن يخرس الآخرين٬ ومع تفاهة ما عنده يقول مقالة فرعون قديما "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". وعن تمكن الترف المادي من العقلية المسلمة وتسببه الكبير في انتهاء الوجود الإسلامي بالأندلس، مثلا وعملنا على منع تكرار المأساة، صرح الغزالي في إحدي البرامج التلفزيونية أن المال قوام الحياة وسياج المروءة، وعندما يكون دولة بين جماعة من الناس، فإن نتائج ذلك مدمرة، إذ الجوع كافر وحقد المحرومين قاتل وهل انتشرت الشيوعية إلا مع هذه الخلخلة التي أحدثها العصيان لأوامر الله، واعتداء حدوده، فحتى متى يسترسل المسلمون مع أخطاء قديمة، ولقد رأيت في أوروا وأمريكا دولا شتى تشرع قوانين دقيقة لضبط سياسة المال والحكم وذلك لأنها تعرضت لنزوات الجور والأثرة والطغيان وكما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم. ويحكي عنه المهندس أبو العلا ماضي، رئيس حزب الوسط فيقول "أذكر في ذات مرة ونحن نصحبه إلي محطة السكة الحديد بمدينة المنيا سيرا على الأقدام في مجموعة من الشباب وكان ذلك في أواخر السبعينيات في الصباح الباكر وكان من ضمن هذه المجموعة المهندس محي الدين عيسى وكان هو رمز هذه المجموعة في هذه الفترة فسأله الشيخ أسئلة ذات دلالة، منها من أين تأتى "بشنبر" النظارة التي تلبسها، فأجاب من إيطاليا، ثم سأله عن الدراجة التي كان يجرها معه أثناء السير ومن أين تأتي هذه الدراجة ؟ فأجابه: من الهند ، ثم سأله عن قماش القميص والبنطلون الذي يرتديهما ؟ فأجاب عن اسم البلد الذي استورد منها، فقال الشيخ الغزالي: نحن أمة تعيش عالة على الأمم ولانصنع شيئا يذكر، فهذا نموذج من رمز إسلامي كل ما يلبسه ويستعمله رغم بساطته قادم من أماكن أخرى غير بلاد العرب والمسلمين، ثم استطرد الشيخ: ما هو أولى هل القضايا الفرعية التي تثيرونها أم مشروع استنهاض لهذه الأمة يعيدها إلى مضمار الحضارة التي كانت، فتعود نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع. ثمانون عاما الا قليلا قضاها الإمام الغزالي في الحياة سائرا في دروبها بين بحث وعلم ودراسة ودعوة في سبيل الله، اختتمها في المملكة العربية السعودية أثناء مشاركته في مؤتمر حول الإسلام وتحديات العصر الذي نظمه الحرس الوطني وكما قال النبي صلي الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبده خير استعمله، قيل كيف يستعمله يا رسول الله فقال: بأن يقبض روحه علي عمل صالح"، فقبض الله روح الإمام في أرض الحرم في التاسع من مارس لعام 1996 ودفن بالبقيع بالمدينة المنورة رحمة الله عليه وطيب الله ثراه.