كل تيار سياسى حدد موقفه من الرقص أمام اللجان بحسب رؤيته ومصلحته أنصار السيسى اعتبروه تأييدًا له.. والمعارضون اعتبروا أن المصريات يبحثن عن فرصة للرقص والإخوان اعتبروه دليل فساد أستاذ طب نفسى يعتبر الرقص دليلًا على هوس جماعى وجيهان السادات: «الذين يرفضون رقص المصريات لديهم عُقد لماذا رقصت النساء أمام اللجان الانتخابية؟ سؤال محير وليس له إجابة محددة.. الأدق أن له إجابات مختلفة وربما متناقضة. كل إجابة من الإجابات المختلفة تعكس تنوع الرؤى تجاه المرأة.. جسدها.. وحريتها.. وتجاه الرقص أيضًا.. وهل هو فعل مدان.. أم تعبير عن الرغبة فى الحياة؟! رقص النساء أمام اللجان الانتخابية ظاهرة جديدة لم تعرفها مصر سوى فى الاستفتاء على دستور 2014، وهو أول مناسبة انتخابية بعد سقوط الإخوان، والظاهرة تكررت فى انتخابات الرئاسة.. على الأقل فى اليوم الأول. فى المناسبتين كان هناك عامل «مُحفز» لرقص النساء.. أغنية وطنية على أنغام راقصة.. فى الاستفتاء كانت تسلم الأيادى، هى الأغنية التى تشعل مشاعر النساء، وتدفعهن للتعبير بلغة الجسد، وفى الانتخابات الرئاسية كانت نغمات وألحان «بشرة خير» هى كلمة السر التى أطلقت أجساد النساء من أغلال الكبت. الموقف من رقص النساء أمام اللجان اختلف باختلاف الموقف السياسى، فالإخوان بالطبع كانوا ضد سلوك النساء، والمناسبة التى رقصن فيها.. كانوا ضد السيسى والنساء معًا... كانوا ضد الاستفتاء والانتخابات كمناسبة سياسية، وكانوا ضد حرية المرأة فى الرقص كسلوك اجتماعى، ولم يكن ذلك غريبًا عليهم فهم محافظون بالفطرة رجعيون بالسليقة، نساؤهم أقرب من حيث المظهر للذكور، والمرأة لديهم ليست سوى بديل للكادر الإخوانى فى المنزل، «فى سنوات النعمة»، وفى التنظيم والشارع فى سنوات النقمة. الأدبيات الإخوانية ربطت بين رقص النساء باعتباره علامة انحطاط وفق المفهوم الضيق، وبين ما سموه بالانقلاب، ولا شك أن موقف الإخوان طبيعى، ولاشك أيضا أنه تعبير عن عقلية قديمة وساذجة تعتبر الرقص علامة انهيار أخلاقى، وتربط بينه وبين ما تراه انهيارًا سياسيًا واجتماعيًا رهيبًا «أليس الإخوان قد غادروا الحكم؟»
على عكس وجهة نظر الإخوان تمامًا، ستجد وجهة نظر مؤيدى الفريق السيسى الذين يرون رقص النساء علامة تأييد مباشرة للمشير السيسى، والحقيقة أن رقص النساء فى أحد مستوياته هو تعبير عن تأييد للمشير السيسى، لكن هناك تفسيرات أخرى للظاهرة مثل فرحة النساء بسقوط دولة الإخوان.. أو رغبة المرأة فى أن ترقص فى مساحة آمنة اجتماعيًا، فهى أولًا ترقص فى مناسبة سياسية ووطنية عامة بمعنى أنها تشبع احتياجها للرقص كأنثى، وهى فى مأمن من الإدانة الاجتماعية، فهى ترقص لسبب سياسى ووطنى بحت.. ورقصها ليس فقط إشباعًا لغريزة أنثوية، أو إعلانًا عن استخدام آخر للجسد، بخلاف أن يكون أداة لخدمة الأبناء وإشباع رغبة الزوج.. هذا إذا كانت لديه رغبة، ولكنه أيضًا إعلان لفرحة بسقوط الإخوان، وتأييد لخارطة الطريق، وإلخ.. وإلى جانب رغبة المرأة فى الرقص فى منطقة الأمان الأخلاقى، والهروب من إدانة الرقص فى الشارع كسلوك جديد على المجتمع، هناك أيضًا احتماء المرأة بالأمان الفعلى حيث تقف النساء أمام اللجان الانتخابية وتحت حراسة قوات الجيش والشرطة ليرقصن فى مأمن من التحرش.. الذى زاد فى السنة الأخيرة من حكم مبارك وسنوات الثورة الثلاث ليلتهم مساحات الأمان الاجتماعى المتبقية لدى النساء المصريات. الآن وفى المشهد الجديد لم يعد هذا موجودًا، فبعد 30 يونيه عاد الضبط والربط وفرضت الدولة هيبتها، والدليل أن النساء اللاتى لم يكن يأمن على أنفسهن وهن متواجدات فى الميادين والشوارع المختلفة مجرد تواجد دون أن يسلكن سلوكًا يصنف استفزازيًا كالرقص.. يستطعن الآن ليس فقط أن يتواجدن فى الفضاء العام، ولكن أيضًا أن يرقصن إذا شئن.. ألسنا فى عهد الدولة القوية.
«البنات مبسوطين أنهم بيرقصوا فى الشارع.. وحقهم.. السيسى ليس له علاقة بالموضوع من قريب أو بعيد»، كان هذا الرأى الثالث الذى كتبته ناشطة سياسية وصديقة قديمة على موقعها على شبكة «الفيس بوك» وهو بالتأكيد تعبير عن وجهة النظر الثالثة، وهى وجهة نظر ليبرالية متحررة تنحاز لحرية المرأة وحقها فى الرقص، وإن كانت لا تنحاز بالضرورة لانتخاب المشير السيسى، لذلك تفصل بين حق المرأة فى ممارسة الرقص واحتلال مساحة أوسع فى المجال العام. وبين المناسبة السياسية التى تمارس فيها هذا الرقص.. وجهة النظر هذه ترفع شعار «رقص نعم.. سيسى لا».
بعيدًا عن التفسير السياسى لرقص المصريات والذى يكاد ينحصر فى وجهات نظر ثلاث: ترفض إحداها كلًا من رقص النساء، وتأييدهن للسيسى معًا.. فى حين تربط الثانية بين الرقص وتأييد المشير المنتصر، وتعتبر التأييد هو السبب الوحيد للرقص، فى حين تفصل الثالثة بين معارضة أصحابها للسيسى، وبين إيمانهم بحق النساء فى الرقص والتعبير عن أنفسهن بحرية.
وبخلاف وجهات النظر الثلاث ستجد محاولات سريعة ومتسرعة لتفسير الظاهرة وهى أقرب لأحكام سريعة بالتأييد أو الرفض ربما كان أكثرها لفتًا للنظر تصريح للسيدة جيهان السادات اهتمت فيه بتفسير الظاهرة، وانحازت لطبيعتها المتحررة والمحبة للحياة أيضًا حيث اعتبرت أن من يهاجمون رقص المرأة أمام اللجان يعانون من «عُقد» ما، وإن كانت لم توضح طبيعة هذه العُقد. واعتبرت جيهان السادات أن الرقص تعبير عن الفرحة «المرأة من حقها أن تفرح لأنها تشارك فى صنع القرار فى بلدها.. واعتبرت أن حضور النساء القوى فى الانتخابات هو الذى أثار غضب الغاضبين». لكن ليس كل الذين حاولوا تفسير الظاهرة تفهموا موقف النساء.. هناك مثلا د. سعيد عبدالعظيم، وهو أستاذ للطب النفسى، تخصص فى علاج بعض الأسباب النفسية للاضطراب الجنسى، وهو فى محاولته للتفسير يقدم تحليلًا أقرب للإدانة فضلًا عن أنه يتسم بكلاسيكية مفرطة، فهو يعتبر أن اللاتى يرقصن أمام اللجان لسن سوى حالات شاذة، وأن «رقص النساء» أمام اللجان يمكن أن يندرج تحت مرض الهوس فى علم النفس، باعتبار أن الرقص فى الشارع تصرف غير مقبول لا اجتماعيًا ولا دينيًا، ولأن الظاهرة سياسية فى أحد أوجهها فلم يكن غريبًا أن تقدم قيادات حزب النور تفسيرًا سلفيًا للظاهرة حيث يرى سامح عبدالحميد القيادى فى الحزب أن رقص النساء أمام اللجان لم يحدث إلا فى الاستفتاء على دستور 2014 وانتخابات الرئاسة الجارية.. وهو يعتبر أن الرقص غير مقبول فى كل الأحوال ومن أى امرأة.. ويزداد الأمر بشاعة إذا كانت المرأة منتقبة.. ومع ذلك ف«ليس كل المنتقبات تابعات لحزب النور». وعلى الرغم من إدانة السلفيين للرقص وعدم تسامحهم معه أخلاقيًا واجتماعيًا إلا أنهم يبدون قدرًا من التسامح السياسى مع ما يدفع للرقص حين يقرر القيادى السلفى أن سبب الرقص هو «زوال الإخوان».
بعيدًا عن التفسيرات السياسية ومحاولات الإدانة والاحتفاء بالظاهرة على أرضية أيديولوجية طرحت الظاهرة على الباحثة النسوية نهال عمران.. وهى من الجيل الجديد من الباحثات وتجمع بين الانتماء للثورة والاهتمام بالعلم.. حيث تعد أطروحتها للماجستير فى إحدى الجامعات البريطانية عن مفاهيم الأنوثة والذكورة فى الثقافة المصرية.. وقد لخصت أفكارها حول ظاهرة رقص النساء فى عدة نقاط، أولها أن الظاهرة لا تنفصل عن مشاركة النساء البارزة فى ثورة يناير وما تبعها من أحداث، وهى بطبيعتها ثورة شعبية فوجئ من خلالها الشباب والشابات الذين يمثلون 65٪ من سكان مصر، أن بإمكانهم إسقاط النخبة الحاكمة أو دولة العواجيز كما سماها عبدالرحمن الأبنودى.. ودولة العواجيز هذه كان أكثر من 95٪ من رموزها من الرجال.. فباستثناء سوزان مبارك لم تكن ثمة رموز نسائية.. وبالتالى ووفقًا ل«نهال» فإنه مع انهيار نظام مبارك حدث انهيار جزئى لفكرة الرجولة نفسها.. حيث سقط الحاكم الأب الديكتاتور وانهارت الصورة المهيمنة للأب الحاكم أو شرخت، وعندما تداعت الأمور أكثر ودخل مبارك للسجن تحطمت صورة الذكورة المهيمنة تمامًا.. وبدأت المرأة تجرب أكثر وأكثر قدرتها على الخروج للملاعب المفتوحة.. أو البقاء فى المجال العام لوقت أكثر ثم لعب دور أكبر وأكبر.
السياسة موضة ولم يكن انهيار صورة الأب المهيمن هو السبب الوحيد لخروج المرأة للمجال العام أكثر فأكثر.. فالسياسة تحولت إلى موضة.. ورغم أن هذه ظاهرة ليست إيجابية إلا أنه قد نتج عها أثر إيجابى، فالنساء يصحبن أسرهن للميادين فى المناسبات السياسية المختلفة، والفتيات يرتدين علم مصر ويسرن فى الميادين وهى ممارسات لم تكن مألوفة أو موجودة قبل الثورة. وإلى جانب انهيار نخبة الحكم وتحول السياسة إلى موضة ثمة سبب ثالث جر النساء لقلب المشهد السياسى وهو إدمانهن ل «الرغى» أو للأحاديث المفتوحة والدردشة لملء أوقات الفراغ. هذه الحالة ساهمت فى أن تستبدل النساء الحديث عن وصفات الطبخ وتربية الأبناء والموضة والثرثرة حول أمور سياسية، ومن المرشح الذى ستنتخبه المرأة فى الانتخابات ولماذا؟ وبالتالى كانت هناك عوامل محفزة وضعت المرأة فى المشهد السياسى حتى وصلت إلى محطتها الأخيرة، وهى الرقص أمام اللجان الانتخابية كوسيلة للتعبير عن الفرحة أو عن الوجود، حيث تعتبر «نهال عمران» أن الرقص هو مفتاح الجسد وبسبب ارتباطه بالجنس تم قمعه مع الجنس نفسه.
وبمفهوم ما فإن الرقص هو تعبير عن مشاعر إنسانية أبرزها الرغبة، وعلى المستوى المباشر فإن الرقص هو أحد تداعيات انهيار السلطة والإخوان والتى كانت تدعى أنها تحكم باسم الأخلاق والدين، وهو ما أحدث حالة من الخوف لدى المصريين، وهى الحالة التى انهارت مع 30 يونيه.