يستعد تنظيم الدولة الإسلامية لخوض فصل جديد من تواجده في العراق، الخطير فيه أنه ربما يستمر لسنوات طويلة. فما إن أيقن داعش خسارته لمعقله الرئيسي في مدينة الموصل بشمالي البلاد، وعدم قدرته على الصمود في وجه الحملات العسكرية العراقية المتلاحقة بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة، حتى بدأ التخطيط لحرب عصابات تعتمد أسلوب الكر والفر الذي كان يتبعه قبل هجومه الكاسح في 2014 وسيطرته على ثلث مساحة العراق. انهارت أسوار "دولة الخلافة"، وعاد التنظيم على وقع الهزائم إلى أصله كمجوعة مسلحة وخلايا صغيرة تختفي في الجبال وتحتمي بالأماكن الوعرة والصحاري تتركز عملياتها على الهجمات الخاطفة والتفجيرات، على طريقة التنظيم الأم، تنظيم القاعدة، الذي اتخذ من جبال أفغانستان وكهوفها ملجأ له، وكذلك حركة طالبان، والجماعات المتشددة التي سارت على درب القاعدة في أفريقيا، حيث تضمن لهم الصحاري والأماكن الوعرة أطول مدة من البقاء والاستمرار. وتكشف المصادر الأمنية العراقية أنها تتلقى المزيد من التقارير من مصادرها تتحدث عن حركة متصاعدة لقادة التنظيم ومسلحيه صوب مناطق وعرة يصعب السيطرة عليها شمالي البلاد. ويدور الحديث عن سلسلة جبال حمرين، الواقعة بين محافظاتكركوك (شمال) وصلاح الدين وديالى (وسط) وتمتد على خط قرب الحدود السورية وصولا إلى الحدود الإيرانية. وتحولت جبال حمرين ذات التضاريس الجغرافية الوعرة إلى وجهة رئيسية لمسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، إذ يجدون ملاذا آمنا في تلك المنطقة التي باتوا يطلقون عليها اسم "ولاية الجبل". ويذهب مسؤولون أمنيون عراقيون إلى تزايد حركة مسلحي داعش صوب تلك المناطق الجبلية على نحو ملحوظ خلال الحملة العسكرية لاستعادة الموصل التي انتهت شهر يوليو 2017 إثر معارك استمرت 9 أشهر وأخيرا الحملة العسكرية المتواصلة في قضاء تلعفر (شمال غرب). ونجحت وزارة الدفاع العراقية في استعادة قواتها السيطرة على أكثر من نصف مساحة مدينة تلعفر، من قبضة تنظيم داعش، بعد أقل من أسبوع من انطلاق حملة عسكرية لاستعادة القضاء الاستراتيجي. ويقول الفريق رائد شاكر جودت، قائد الشرطة الاتحادية في وزارة الداخلية العراقية، في تصريحات صحافية، إن "التقدم في تلعفر يجري وسط انكسار كبير في صفوف عناصر داعش، وأغلبهم الآن يهربون باتجاه الوديان وجبال حمرين". ويضيف جودت "تفيد المعلومات الاستخبارية بأنه لوحظت تحركات مكثفة لمسلحي داعش في جبال حمرين، ونتوقع أن يكون معظم قادة التنظيم قد انسحبوا إلى المرتفعات والوديان الوعرة في المنطقة". بعد عام 2003 كانت معظم الجماعات المسلحة المعارضة للسلطة الجديدة في العراق تحتفظ ببؤر في المنطقة وتشن من هناك هجمات على القوات الأميركية التي احتلت العراق حتى عام 2011. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، شن تنظيم الدولة الإسلامية هجمات متكررة انطلاقا من تلك الجبال على قوات البيشمركة الكردية في كركوك وطوزخورماتو وكذلك القوات العراقية في محافظتي صلاح الدين وديالى. وكانت جبال حمرين معقلا لتنظيمات مسلحة أخرى كتنظيم القاعدة وجيش رجال الطريقة النقشبندية وأنصار السنة وجيش النقشبنديين وجيش المجاهدين، حيث تواجدت في المنطقة قبل ظهور داعش. وأحكم داعش قبضته على سلسلة جبال حمرين والمناطق المحيطة بها عند اجتياح شمال وغرب العراق قبل ثلاث سنوات. لكن قوات الجيش العراقي والبيشمركة طردت مسلحي التنظيم من تلك المناطق بعد ذلك بأشهر، قبل أن ينشطوا هناك مجددا مع خسارة المناطق السهلية في المواجهات العسكرية المباشرة. ويؤكد قائد الشرطة الاتحادية العراقية أنها "من الناحية الجغرافية منطقة وعرة وصعبة عسكريا"، ولا يزال التنظيم يحكم قبضته على جيب كبير جنوب غربي محافظة كركوك شمال سلسلة جبال حمرين مباشرة ويضم قضاء الحويجة وناحيتي الرياض والزاب. ويقول علي الحسيني، مسؤول قوات الحشد الشعبي في محور الشمال، إن تنظيم الدولة الإسلامية يعتزم تعزيز صفوفه في المنطقة وتجنب خوض معارك جبهوية ضد الجيش وقوات البيشمركة. وتحولت هجماته إلى طابع حرب العصابات. وبحسب الحسيني فإن "داعش أعلن ولاية الجبل قبل فترة في إشارة إلى جبال حمرين"، عازيا سبب اختياره المنطقة إلى "وعورتها واتصالها بسوريا، الأمر الذي يساهم في تسهيل حركة مسلحيه بين العراق وسوريا". ويشير عبدالله بور قائد البيشمركة في طوزخورماتو (تابعة لصلاح الدين وسط العراق)، إلى أن مسلحي تنظيم داعش عادوا بالفعل لشن حرب العصابات كالسابق، "لا يستطيعون احتلال أي منطقة والسيطرة عليها بل يقومون بهجماتهم فقط ثم يعودون إلى مناطقهم". وبحسب بور فإن "داعش يخوض حربا نفسية ضد البيشمركة"، مشيرا إلى أن مسلحي التنظيم "يتجولون قرب سواتر البيشمركة ليلا ثم يعودون إلى مخابئهم في حمرين نهارا". ويتابع القائد الكردي أن "تواجد المسلحين في تلك الجبال لا يشكل خطرا على المناطق الحدودية للإقليم الكردي وجبهات البيشمركة فحسب، بل يهدد أيضا الأمن والاستقرار في المدن العراقية". وتقدر مصادر أمنية ضمن قوات البيشمركة عدد مسلحي التنظيم في جبال حمرين ب 500 عنصر، وتعزو لجوءهم إلى المنطقة إلى كثرة مواقع الاحتماء بها، وقلة الغارات التي تشنها مقاتلات التحالف الدولي هناك. يترافق تركز ما بقي من مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية في الجبال والمناطق الوعرة، مع تصاعد العمليات الخاطفة والتفجيرات، من ذلك التفجير الذي ضرب بغداد الاثنين 28 أغسطس 2016، وذهب ضحيته العشرات من العراقيين بين قتلى وجرحى. ووقع التفجير في مدينة الصدر ذات الغالبية الشيعية في شرق بغداد. وتشي سرعة تبني تنظيم الدولة الإسلامية للتفجير بوضعه الحالي، حيث يقول خبراء إن قادة التنظيم يحتاجون إلى رص الصفوف والبعث برسائل لتأكيد وجودهم وأن هزيمته في الموصل وتلعفر وغيرهما لا تعني نهايته في العراق الذي سيتعين عليه مواجهة حرب أمنية مرهقة ربما لسنوات قادمة. وقال ضابط برتبة رائد في الشرطة إن "سيارة مفخخة انفجرت داخل سوق لبيع الخضار في مدينة الصدر ما أسفر عن مقتل 11 شخصا وإصابة 26 بجروح". ووقع الانفجار حوالي العاشرة والنصف صباحا (07:30 ت غ) قرب سوق بيع الخضار الرئيسي في منطقة جميلة الواقعة في مدينة الصدر، وهي ذات الطريقة التي كان يتبعها تنظيم القاعدة في العراق في هجماته. وأدى الانفجار إلى دمار كبير داخل السوق حيث تناثرت البضائع على الأرض واختلطت بدماء الضحايا، في صور تذكر أهالي بغداد بتاريخ من التفجيرات وتضعهم أمام مستقبل قلق وشبح إرهاب مستمر في العيش بينهم. ويذكرهم بأن داعش هو فصل من فصول الأزمة الطائفية والسياسية في العراق منذ عام 2003، ولن يكون الفصل الأخير مادامت الأزمة قائمة.