هل هو فعل قبيح ارتكبه أحد الحلفاء بحق حليفه؟ لا، ليس ذلك فقط، ففضيحة تجسس الولاياتالمتحدةالأمريكية على ألمانيا تتجاوز إطار علاقات البلدين، فهو يسىء لصورة واشنطن فى القارة العجوز بأكملها، ويؤثر سلباً على قدرتها كقائد للمعسكر الغربى عموماً. وكانت البداية بتسريبات نشرتها الصحف الألمانية مطلع يوليو الجارى، عن متدرب فى المخابرات الألمانية أرسل من مكتبه بإقليم بافاريا، خطاباً للسفارة الأمريكيةببرلين يعرض فيه خدماته على المخابرات المركزية الأمريكية CIA التى قبلت على الفور بالتعامل مع هذا العميل المبتدئ، بل والدفع له بسخاء، حيث حصل على مبلغ 25 ألف يورو مقابل 18 وثيقة تحتوى على معلومات مهمة، قبل أن تكتشف السلطات الألمانية بالصدفة البحتة أنه أرسل نفس الخطاب للقنصلية العامة لروسيا بمدينة ميونخ. عقب التسريب السابق بثلاثة أيام، نشرت الصحف الألمانية تسريباً أخر ولكنه أكثر خطورة من سابقه، إذ أن الأمر يتعلق بموظف فى منصب حساس بوزارة الدفاع الألمانية، قدم للمخابرات الأمريكية معلومات على درجة عالية جداً من السرية، وفتحت حكومة برلين تحقيقات مطولة تحفظت فى إعلان نتيجتها، ولكنها أبدت فى الوقت نفسه غضباً عارماً تجاه البيت الأبيض، وقامت بطرد مدير مكتب المخابرات الأمريكية فى برلين كإجراء غير مسبوق، بين حليفين أقرب لبعضهما البعض من حبل الوريد، ويعكس فى الوقت نفسه ذهولاً وعدم تصديق فى أوساط السياسة والرأى العام الألمانى تجاه السلوك الأمريكى. وإذا كان هناك بلد لا يمكنه تحمل المزيد من السخافات الأمريكية فهى ألمانيا بكل تأكيد، إذ لم تستفق برلين بعد من صدمة المعلومات التى سٌربت العام الماضى بواسطة إدوارد سنودن، العميل الأمريكى السابق بشأن قيام وكالة الأمن القومى الأمريكى، بالتجسس لمدة عشر سنوات على الهاتف الشخصى للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، المولودة فى ألمانياالشرقية إبان الحقبة الشيوعية والتى عانت فى شبابها من تغلل أجهزة أمن الدولة فى أدق تفاصيل حياتها الشخصية، لذا فإن ميركل لم تغفر للأمريكيين فعلتهم، ويأست من الحصول على توضيحات وتفسيرات طالبتهم بها مراراً وتكراراً بعدما فتح البلدان تحقيقاً مشتركاً لم يكتمل وتم إغلاقه لأسباب لم يُعلن عنها. وكان جون إيمرسون السفير الأمريكى فى برلين تلقى استدعاءً من الخارجية الألمانية ليفسر سلوك بلاده إلا أن صحيفة (بيلد) أكدت أن الرجل استخف بمحاوريه من الألمان ولم يجب على أى من أسئلتهم، لذا علق فرانك شتاينمر وزير الخارجية الألمانى، بتغريدة على تويتر قائلاً (لا أدرى لماذا يتصرفون هكذا فالأمر ليس بسيط)، وقالت صحيفة بيلد الألمانية إن قرار طرد المسئول الاستخباراتى الأمريكى يشكل بداية قطيعة حقيقية بين البلدين لا سيما وأن القرار جاء من ميركل شخصيًا ردًا على عجرفة واشنطن. صحيفة دويتشه تسايتونج، المحسوبة على يسار الوسط، قالت تحت عنوان (وأخيراً ميركل تغضب)، إن ما حدث يُعد نقطة فارقة فى تاريخ علاقات البلدين، وبمثابة اللكمة القوية على أنف أمريكا التى تندس فى كل شيئ، وأضافت الصحيفة أن المستشار السابق جيرهارد شرودر، كان أول من اتخذ خطوات من شأنها تجعل الساسية الألمانية أكثر استقلالية عن القرار الأمريكى، وذلك بقوله لا للحرب على العراق، وأكدت الصحيفة أن اللكمة جاءت متأخرة، وكان على ميركل أن تفعلها منذ سنوات، خصوصاً وأن الأمريكيين يتعاملون مع ألمانيا بصلف غير مسبوق. فيما ترى صحيفة فرانكفورتر أن برلينوواشنطن، تقفان على شفا حرب دبلوماسية، وأن الرسالة التى تريد ألمانيا ان تبها للإدارة الأمريكية بقرار طرد مدير مكتب مخابراتها فى برلين هى أن ميركل تقول لأوباما: أنا لست كلبك الكانيش ولست تابعة لك. أما صحيفة لوموند الفرنسية اليومية، حاولت التعرف إذا ما كانت أفعال التجسس الأمريكية طالت باريس أما لا، وتوجهت بسؤال يحمل هذا المعنى لدبلوماسى فرنسى رفض الإفصاح عن هويته، وكانت الإجابة تحوى دفاعاً ضمنياً عن التصرفات الأمريكية فى تصريحاته التى جاء فيها: (لا داعى لاصطناع السذاجة والمثالية، الكل يتجسس على الكل.. التجسس الأمريكى على هواتف المواطنين فى أوروبا أحبط الكثير من الهجمات الإرهابية، وحتى الصينيين والروس ليسوا بمأمن مما يفعله الأمريكيون ونحن الفرنسيين نعلم أنهم يتجسسون علينا.. من الأفضل أن نغلق هذا الملف لأن لا أحد مستعد لأن يستمع إلى دروس فى الأخلاق). ولكن، وبحسب المصدر نفسه، يبقى مدى المراقبة أمراً غير مقبول، إذ من الواضح أن وكالة الأمن القومى الأمريكى تجسست على أعداد هائلة من هواتف المواطنين فى ألمانيا وفى عموم أوروبا، كما أن التجسس على هاتف ميركل ليس له ما يبرره على الإطلاق. ورغم فداحة الأمر إلا أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما تصرف بلامبالاة، حتى وإن أعلن عن إصلاحات فى وكالة الأمن القومى، فهو لم يسع لمعرفة ما الذى فعلته الوكالة فى أوروبا بالضبط، وإذا ما كانت تصرفت بشكل قانونى أم أن عملائها يعملون كما يعمل القراصنة الصينيون والروس، الذين لا يتوقفون عن محاولات اختراق أجهزة حواسيب المؤسسات الأمنية الأمريكية،خصوصاً وأن واشنطن لا تكف عن الشكوى وإدانة الأعمال غير الأخلاقية التى تقوم بها موسكو وبكين. وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلارى كلينتون، التى تزور برلين حالياً للتسويق لمذكراتها، كانت حذرة جداً فى حوارها مع مجلة دير شبيجل الألمانية الشهيرة، ورفضت الإجابة على أى سؤال بهذا الشأن وأكدت أنه يجب الانتظار حتى تنتهى التحقيقات تماماً قبل اتخاذ أى موقف. التسريبات الأخيرة تضاعف من شكوك الشعب الألمانى تجاه الولاياتالمتحدة، لا سيما وأن دير شبيجل أجرت استطلاعاً للرأى أبدى خلاله 57% من المشاركين فيه رغبتهم فى أن تنتهج بلادهم سياسة أكثر استقلالية عن السياسة الأمريكية، وهو ما يضع سمعة واشنطن على المحك لا سيما فى مرحلة ما بعد الخروج من المستنقع العراقى، وربما ينتهى الأمر بفقدان الولاياتالمتحدة شرعيتها كقائد سياسى وعسكرى للمحور الغربى و لحلف شمال الأطلنطى.