عينان ذابلتان، ووجه شاحب، مُمزق، يعلو جسد نحيل، ضئيل، يخطو عليه الماشيين، وقد تدهسه الأقدام وسط الزحام، وقد يأخذ أحدهم العطف عليه، ويمنحه جنيهًا، أو بضعة جنيهات، أنه محمد ذلك الطفل الذى لم يتجاوز العشر سنوات من عمره ، يقف أمام محطة مصر، يحمل بين يديه بعض البالونات، ليس ليلعب، ويلهوا بها، مثل باقى الأطفال فى عمره، ولكن لأن تلك البالونات هي مصدر رزقه، تطوف أعينه البريئة أرصفة محطة القطار، لعله يجد من يشتري منه ، ليستطيع توفير قوت يومه. يسرد محمد ل "الموجز" قصة عمره الذى يبلغ عشر سنوات بؤس، وتشرد، وضياع قائلًا:" أنا فتحت عينى على الدنيا لقيت نفسى وحيد، وعرفت أن أبويا، وأمى ماتوا فى حادثة قطر، وقعدت عند ناس قرايبى بس محدش بيستحمل حد، فسبت البيت ومشيت، ولفيت فى الشوارع، واشتغلت قبل كده فى بيع المناديل، والحلوى، ودلوقتى ببيع البالونات، وأى حاجة بتطلع لي من بيعها، بشترى بها سندوتش فول أو طعمية، أحسن ما أدور على أكل فى الزبالة، وأفضل من أنى أمد ايدى للناس، واشحت منهم". وبكل حزن، أضاف: "أنا بنام فى أى مكان تحت الكوبرى، أو فى أى مقلب للزبالة، ومع أول شعاع للشمس بكون واقف عند محطة القطر بالبلونات، مش عشان أنا بحب اصحى بدري لا بس عشان مفيش أي حد يدوس علي وأنا نايم، وكمان بخاف يولعوا فى وأنا نايم جنب الزبالة، زى ما حصل مع واحد من صحابى، وأكلت النار جسمه، ومحدش قدر ينقذه". صمت بضع دقائق، وذرفت عيناه الدموع، وقال :" أنا ببيع للأطفال السعادة إلي أنا اتحرمت منها، أنا لما بشوف طفل ماسك فى أيد أبوه بزعل أوى، وبحسدهم على النعمة اللى هما فيها، كان نفسي يكون عندى أب، وأم، وأخوات بدل ما أنا عايش فى الشارع، ومليش حد فى الدنيا يسأل عنى، أنا حتى عمرى ما حسيت يعنى ايه معنى عيد." ويستكمل حديثه قائلاً :"الدنيا مش سايبانا فى حالنا، أنا شفت عذاب ملوش وصف، وكتير العيال كانوا بيضربونى، ويعذبونى، ويقطعوا وشى بالموس، والمطاوى، ويخدوا منى الفلوس اللى شقيت بها طول اليوم، وعشت أسود سنين عمرى فى الشارع وسط السجاير، والمخدرات، والحقن، وكل حاجة وحشة ممكن تتخيلوها ." وتابع كلامه :" أنا عمرى ما حد سأل عنى، ولا حس بى، ولا عطف على، مليش غير الرصيف، اللى بيدفينى من برد الشتاء، ويحمينى من لهيب الصيف، وصناديق الزبالة هى سفرتى." وأختتم بصوت مخنوق، قائلاً:" أنا نفسي فى عشة صفيح أنام فيها بدل الأسفلت اللى كسر ضلوعى، ومش هقول عايز أروح مدرسة زى الأطفال اللى فى سنى عشان عارف أن الطلب ده مستحيل، لأن أنا مليش مكان بين ولاد الناس، لكن كل اللى نفسى فيه إنى اشتغل فى مكان كويس عشان أقدر اشترى كل اللى فى نفسى".