لم تترك شهادات التفوق التي تراكمت فوق مكتب إسحق نيوتن لدى الأم أدنى شك بعبقرية ولدها، فقررت الاستفادة منه قدر الإمكان وتأميم تلك العبقرية على اعتبار أن الأقربين أولى بالجمجمة، فحالت بين ولدها وبين مقاعد الدراسة وأبدلت الفصل الضيق بمزرعة كبيرة تستطيع فيها المواهب أن تتفتق كما ينبغي. لكن توقد الذهن لم يضمن محصولا زراعيا أوفر، ولم ترع الجمجمة الماسية قرون الأبقار حق رعايتها، ولم توزع الكلأ على الحظائر بعدالة أو تقسم الماء بين الشاربين من ذوي الأجنحة بالقسط. فبدلا من الخروج خلف الأبقار نحو المرعى، تكوم الفتى فوق كتبه تحت أبعد سياج مسقوف. وبدلا من حمل الثمار إلى السوق، ظل صاحبنا يركض في ماراثون وجودي ضد الريح تارة ومعها تارة أخرى ليقيس طاقة الريح وقوة المقاومة. وبدلا من تغيير الماء في آنية الدجاج وتبديل الطعام الفاسد بطعام طازج، انشغل الفتى بملاحقة أفكاره وتدوينها في دفتر كَتَب عليه هذا الدفتر ملك لإسحق نيوتن." وفي دفتره دون نيوتن معادلة لصناعة الطباشير، وطرقا مستحدثة لتصفية الذهن، وطريقة لتصنيع الأحبار، وبعض الخدع السحرية والملاحظات الفلكية. لكن كتابه العبقري تجاهل الدجاجات الرابضة فوق عش لم يعد يتسع للمزيد من البيض، وأغفل الأبقار التي ضلت مرعاها وذهبت تقتات من المراعي البعيدة. تجاهل كتاب نيوتن على كثرة ما حوى الصيصان التي نقرت للتو قشرتها الجيرية في انتظار يد حانية ترفع عنها ما تبقى من عنت. لم تفد كائنات المزرعة من جمجمة الرجل ولا من قوانين حركة أو جاذبية، ولم تزودها قوى الدفع أو المقاومة بأي سعرات تمكنها من مقاومة ريح الشتاء الباردة ولا عواصفه الثلجية التي تجمد الدماء في عروقها الزرقاء. ولا تثريب على نيوتن وقد حملته يد لم تميز المواسم ولم تقدر الرجال، فنزعته نزعا من طينته الفكرية وألقت به في غابات الطين والغرس. ما ذنب رجل نُزعت أرياشه الورقية ذات جهالة وأُلقي به في حظيرة لا تعترف بحروفه ولا تميز بين ورقة دوّن عليها خربشات عمره وغلاف ذُرة قُدّم علفا لأبقار لا تفرق بين غلاف وغلاف إلا في طعم الأحبار؟ وما ذنب دجاجات كادت تفقد أرواحها في انتظار رجل لا يعرف الفرق بين نقنقة الدجاج ونقيق الضفادع؟ وما ذنب جيران ابتلاهم الدهر بفلاح فصيح يمتهن الكلام ولا يزرع ولا يسقي الحرث؟ ولا يمكننا كذلك أن نلقي باللوم على أم أرادت أن يغرس أرضها بنوها وأن تأكل من حصاد أيديهم، لكننا نلقي باللوم، كل اللوم، على جهالة لم تفرق بين الأرض والكتاب، ولم تميز بين الحروف والحبوب، ولم تدرك الفرق بين الجماجم والسواعد. وأخشى ما أخشاه اليوم أن نلقي بنوبل وشهاداتها في شقوق الحقول ومرابض الأغنام والأبقار طمعا في مزيد من الحليب والمحاصيل والاكتفاء. أخشى ما أخشاه أن تدير عقلية أم نيوتن نهضتنا المأمولة فنضع الحليب في ضروع العلماء ونترك الشعوب ترعى في حقول الآخرين. لم تنته الثورة يا سادتي باختيار رئيس البلاد، فخياراتنا الأكثر صعوبة وأكثر ديماجوجية تنتظرنا على الطريق. ولأننا لم نثر على رأس النظام ولم نعد إلى ثكناتنا بعد أن نكل الله به، بل وقفنا هناك ننادي بسقوط النظام ونلحف في النداء حتى آتى صهيلنا بعض الأكل، علينا أن لا نبرح أماكننا حتى توضع الرؤوس في مغارسها ويجلس فوق كراسي البلاد أصحابها الذين يحسنون إدارتها ويوسد الأمر في بلادنا لأهله، ولا تغرنكم شهادات علمائكم فتضعوهم جهلا وسط الزرائب لزيادة ثرواتكم الحيوانية، لأن أجسادهم النحيلة لن تنقذنا من أزماتنا الغذائية ولن تصلح أوراقهم لصناعة أحزمة نشدها على بطوننا الضامرة في مواجهة السنين العجاف. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]