"الصحفيين" تتلقى ردًا من النواب حول ملاحظات النقابة على "الإجراءات الجنائية" -(تفاصيل)    أول رد فعل من ناصر عبدالرحمن بشأن صورته المتداولة مع صلاح التيجاني    مدبولي: حددنا 5 مناطق سنطرحها للاستثمار على البحر الأحمر منها "رأس بناس"    نصر الله: التصعيد الإسرائيلي "سيزيد من تهجير السكان ويبعد فرصة عودتهم" إلى الشمال    استشهاد وإصابة 7 فلسطينيين جراء اقتحام قوات الاحتلال لجنين بالضفة    بحضور 53 أميرا وأميرة واحدة.. محمد بن سلمان يثير تفاعلا بكلمة مجلس الشورى    "حالته حرجة".. أخر تطورات الأزمة الصحية لفهد المولد لاعب الشباب السعودي    انفجارات هزت الجيزة.. 30 أنبوبة غاز فتحت بوابة الجحيم في مصنع طوب    موجة مسيئة للقرآن.. الأزهر يحذر من ظاهرة" التغني بالقرآن"    التحالف الوطني للعمل الأهلي يوقع مع 3 وزارات لإدارة مراكز تنمية الأسرة والطفولة    الدكتورة رشا شرف أمينًا عامًا لصندوق تطوير التعليم بجامعة حلوان    ورشة للمخرج علي بدرخان بالدورة ال40 لمهرجان الإسكندرية السينمائي    جيش الاحتلال: مقتل ضابط وجندى فى استهداف بصاروخ مضاد للدروع على الحدود مع لبنان    «الأروقة» تعيد الحياة العلمية للجامع الأزهر ..الطلاب ينتظرون الشيوخ على الأبواب.. ومشروع للتوثيق المرئى    مستشفى "حروق أهل مصر" يعزز وعي العاملين بالقطاع الصحي ضمن احتفالية اليوم العالمي لسلامة المرضى    محافظ كفرالشيخ يوجه بالتيسير على المواطنين في إجراءات التصالح على مخلفات البناء    مهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما يُكرم «هاني رمزي» في دورته السابعة    مركز الأزهر للفتوى: نحذر من نشر الشذوذ الجنسى بالمحتويات الترفيهية للأطفال    القوات البحرية تنجح في إنقاذ مركب هجرة غير شرعية على متنها 45 فردا    الأزهر للفتوى الإلكترونية يعلن الإدعاء بمعرفة الغيب يؤدى إلى الإلحاد    زراعة الغربية تبحث الاستعدادات للموسم الشتوى    تقرير يُكشف: ارتفاع درجات الحرارة بريء من تفجيرات " البيجر " والعملية مدبرة    استطلاعات رأي تظهر تعادل هاريس وترامب على المستوى الوطني    رسميا.. موعد صرف معاشات أكتوبر 2024 وطريقة الاستعلام    محافظ بني سويف: إزالة 272 حالة بحملات المرحلة الثالثة من الموجة ال23    "صحة أسوان": لا يوجد بمستشفيات المحافظة حالات تسمم بسبب المياه    بينها التمريض.. الحد الأدنى للقبول بالكليات والمعاهد لشهادة معاهد 2024    التغذية السليمة: أساس الصحة والعافية    فيلم عاشق على قمة شباك تذاكر السينما في مصر.. تعرف على إيراداته    الحكومة تستعرض الخطة التشريعية خلال دور الانعقاد المقبل لمجلس النواب    بنك إنجلترا يبقى على الفائدة عند 5 %    توقعات برج الحمل غدًا الجمعة 20 سبتمبر 2024.. نصيحة لتجنب المشكلات العاطفية    أول ظهور لشيرين عبدالوهاب بعد أنباء عن خضوعها للجراحة    برلماني عن ارتفاع أسعار البوتاجاز: الناس هترجع للحطب والنشارة    أخبار الأهلي: بعد تعاقده مع الأهلي.. شوبير يعلن موعد بداية برنامجه    من هن مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم وإِخوته في الرَّضاع وحواضنه؟ الأزهر للفتوى يجيب    فانتازي يلا كورة.. ارتفاع سعر لويس دياز    "الموت قريب ومش عايزين نوصله لرفعت".. حسين الشحات يعلق على أزمتي فتوح والشيبي    أبرز تصريحات الشاب خالد ف«بيت السعد»    "بداية جديدة".. تعاون بين 3 وزارات لتوفير حضانات بقرى «حياة كريمة»    "ناجحة على النت وراسبة في ملفات المدرسة".. مأساة "سندس" مع نتيجة الثانوية العامة بسوهاج- فيديو وصور    "بيوصل خمور لأمها وعاشرها مرة برضاها".. مفاجأة في اعترافات مغتصب سودانية بالجيزة    مركز الأزهر: اجتزاء الكلمات من سياقها لتحويل معناها افتراء وتدليس    لبحث المشروعات الجديدة.. وفد أفريقي يزور ميناء الإسكندرية |صور    خبير سياسي: إسرائيل تريد مد خط غاز طبيعي قبالة شواطئ غزة    انتشار متحور كورونا الجديد "إكس إي سي" يثير قلقًا عالميًا    جامعة الأزهر تشارك في المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان»    محافظ الإسكندرية يتابع المخطط الاستراتيجي لشبكة الطرق    إخماد حريق نتيجة انفجار أسطوانة غاز داخل مصنع فى العياط    حزب الله يهاجم تمركزا لمدفعية إسرائيلية في بيت هيلل ويحقق إصابات مباشرة    «لو مش هتلعبهم خرجهم إعارة».. رسالة خاصة من شوبير ل كولر بسبب ثنائي الأهلي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة ضيفا على موناكو وآرسنال يواجه أتالانتا    «الرقابة الصحية»: نجاح 11 منشأة طبية جديدة في الحصول على اعتماد «GAHAR»    ضبط عنصر إجرامى بحوزته أسلحة نارية فى البحيرة    مأساة عروس بحر البقر.. "نورهان" "لبست الكفن ليلة الحنة"    دورتموند يكتسح كلوب بروج بثلاثية في دوري الأبطال    لو عاوز تمشيني أنا موافق.. جلسة حاسمة بين جوميز وصفقة الزمالك الجديدة    هل موت الفجأة من علامات الساعة؟ خالد الجندى يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفسير الشعراوي للآية 171 من سورة الأعراف
نشر في الفجر يوم 06 - 03 - 2019

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(171)}
والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر أو أكثر، والحق يقول عن الجبال: {والجبال أَرْسَاهَا} ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل، فأنت لا تقول: (أرسيت الورقة على المكتب)، ولكنك تقول: (أرسيت لوح الزجاج علىلمكتب ليحميه)، وأنت بذلك ترسي شيئاً له وزن وثقل.
وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا، والوَتِد- كما نعلم- ممسوك من الموتود والمثبت فيه، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه (تخشينة) لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه، وهنا يقول الحق: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} (نتقنا) أي قلعنا، وهناك قول آخر: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت...} [النساء: 154].
وقال الحق أيضا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور...} [البقرة: 63].
وهنا اختلاف بين (نتق) و(رفع)؛ لأن الجبل راسٍ في الأرض، وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع، و(نتقا) تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم، أي أن هناكَ ثلاث عمليات: نتق أي نزع وخلع، ثم رفع، ثم جعله سبحانه ظلة لهم، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما. والحق يقول: (وإذ) أي اذكر إذ نتقنا الجبل، أي نزعناه وخلعناه من الأرض، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي نجعله ظلة، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل، وصار الجبل ظلة (عذاب)؛ لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له: إن أحكام هذه التوراة شديدة. وللإِنسان أن يتساءل: لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر؟. وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه قد يقع فوقهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر، على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه فصار فوقهم. {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.
والظن هو رجحان قضية، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين، مثل قوله الحق: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ}.
وحين بقيت الحالة هذه، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق: {... خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].
و(خذوا) فعل أمر، والأمر يقتضي آمرا، ولابد له من شيء يأمر به. وكلمة (القوة) هذه هي الطاقة الفاعلة، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لأن الكون الذي تراه مسخراً ليس له رأي في أن يفعل أو لا يفعل، بل هو فاعل دائما إذا أمُر، وكما قلنا من قبل: لم تغضب الشمس على الناس وقالت: لن أطلع هذا اليوم، وكذلك لم يمتنع الهواء، وأيضاً لا يرفض الحمار مثلاً أن يحمل الروث، أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له ب (البرذعة) ليجعله ركوبة متميزة، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة. {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظراً لأنه مقهور وليس له تكليف، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي، ومع هذا الاختيار فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يَدْرِي عنها شيئاً مع أن بها قوام حياته، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له: دق، والرئة كذلك وحركة التنفس، والحركة الدودية في الأمعاء، والحالب، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال، هذا اسمه (غريزة) أي أمر غير محكوم بالفعل الاختياري.
وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه. أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع، وحين يقول له مُضيفه- على سبيل المثال-: أنت لم تذق هذا اللون من اللحم، فيأكل. ولهذا نجد أن الأمراض في الانسان أكثر من الأمراض في الحيوان؛ لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه.
ونعرف جميعاً هذا المثال للفارق بين الإنسان والحيوان، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه، ويطبخ الملوخية ليأكلها، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين، فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية، رغم تشابه أوراقهما. لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب، وهما يفعلان ذلك بالغريزة، فالمحكوم بالغريزة له نظام، ولو كان الحيوان مختارا لارْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها.
وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر. فالكهرباء مثلاً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها، لكن بعد ذلك انتفعنا بها، وكذلك الجاذبية، كانت موجودة في الكون منذ الأزل، لكنا لم ننتبه لها، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في بعض الأمور، وله جهة قهر في البعض الآخر، فهو يشارك الكون في القهر، ويتميز عن بقية المخلوقات- عدا الجن- بالاختيار في أمور أخرى. ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما، عندما يصعد هذا الإنسان سلماً ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود.
ومثال آخر، نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها، فإن وجدها حاملاً لا يقربها، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان؛ لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع، ومادامت الأنثى قد حملت، فالذكر لا يقربها، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر؛ فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان.
ومن رحمة الله- إذن- أن يكون الإنسان مقهوراً في بعض الأشياء ومختاراً في أشياء أخرى، ب (افعل) و(لا تفعل) حتى يختار بين البديلات.
وهنا يقول الحق: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّة}.
أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد. وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة. وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة. وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية، القانون الأول والثاني والثالث، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه، فإن كان ساكناً يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه. وإن كان الجسم متحركاً فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك. وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي. أو التعطل، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك، والمتحرك يُعَطّلُ عن السكون إلا أن يوقفه موقف، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير، فإنك تظل ساكناً، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء.
وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لامع وأملس، ثم يضع عليها أطباقاً وأكواباً، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش.
وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة، وقلنا: إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة، والمتحرك يتعطل عن السكون، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ. ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف. ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها، وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة.
وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي. والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن، وهو القانون القائل: إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في الاتجاه، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام.
وهكذا نرى قول الحق: {خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} في الواقع المادي والواقع القيمي. وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها، فالواحد منهم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يقول كلمة معروف، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله. ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة. أو يزني أو يسرق أو يرتشي. وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة. ولذلك نقول: إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين: الأول إن كان ساكناً عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير، وإن كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في (افعل)، و(لا تفعل). فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ. ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه، إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج ب (افعل) ليحرك الساكن، و(لا تفعل) ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون والحركة في ضوء المنهج.
ولنعرف أن الله سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون، فقد اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات، وليس اكتشاف الكافرين للقوانين في الكون مدعاة للكسل والاعتماد عليهم، بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي يُسير أمور الحياة، ولنعلم أنه لا شيء ينشىء فينا فطرة جديدة؛ لأن البشر من قديم مفطورون على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعاً، فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا وجود إله واحد. بل إن الفلاسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك، وأغلب الفلاسفة كانوا غير مؤمنين، وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق الأعظم؛ لأن الإنسان لا يبحث عن شيء لا يظن وجوده. ولأنهم جميعا يعلمون أن الإنسان طرأ على كون، وهذا الكون مقام بهندسة حكيمة، ومخلوق بقوة لا تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها، إذن لابد لهذا الكون من الخالق.
لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم، إلا أن الناس يتهافتون على قانون المادة لأنها تحقق لهم خيراً أو تدفع عنهم شرا، فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما يضرهم، ولذلك احتاج الإنسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له السعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة، أما قوانين المادة في الأرض فتركها الله لنشاط العقل، حتى الذين لا يؤمنون بالله يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها، ويتهربون من قوانين القيم لأنها تحد من شهوات النفس، وتتعب بمشقة التكليف، فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يقول فيها: {... خُذُواْ ما ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد الفعل، لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لأنها تحقق لها شهوة من شهواتها، لكن يجب ألا يغيب عن ذهنك أيها الإنسان أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في الحركة ومضاداً له في الاتجاه، فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيداً رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه، وكذلك مشقات التكليف، حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها وهو الراحة وحسن الثواب، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24].
وفي هذا القول فعل ورد فعل، الفعل هو العمل الصالح في الأيام التي مضت، ورد الفعل هو الطعام والشراب الهنيء في الآخرة. ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً...} [التوبة: 82].
وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل.
ويأتي الإنسان من هؤلاء يوم القيامة ليقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب. ولذلك يقول لنا الحق عن المنهج: {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية، فالذي يتعب الناس في مناهج الله أنهم يغفلون عنها؛ لأن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء، والمعاصي تكسبهم لذة وشهوة، فأوضح الحق: اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم.
ونعلم أن الذِّكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جدا، فالواعظ مثلاً يذكرهم دائماً، وقلنا إن (الوعظ) هو نوع من إعادة التذكير بالإعلام بالحكم، فأنا أعظ من عَلِمَ الحكم؛ لأني أريد أن يفعله، فبعد أن علمه الموعوظ علماً فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عملياً. فكلنا نعلم أن الصلاة ركن، وأن الحج ركن، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكلنا جاءنا العلم بذلك، لكن منا من يكسل في تطبيق هذا العلم. ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ، وهذا من خيرية أمته صلى الله عليه وسلم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...} [آل عمران: 110].
ولماذا هذا التذكير؟. يجيب الحق: {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر...} [آل عمران: 110].
الأمر بالمعروف عظة قولية، والنهي عن المنكر عظة قولية، ويعددها الرسول صلى الله عليه وسلم لبقاء التذكير، وليأخذ كل مسلم منهج الله بقوة، فيقول في الحديث: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان».
إذن فقد نقل الرسول المسألة من الأمر وهو القول والنهي وهو قول أيضاً إلى أن نباشرها فعلاً، فإن لم يستطع الإنسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه، ونجد القرآن قد جاء بها أمراً ونهياً، والرسول جاء بها فعلاً، لأن هناك فرقاً بين المعلومة التي تدخل الذهن، وحمل النفس على مطلوب المعلومة. ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا، وندرس فيها أيضا الجبر والهندسة، والكيمياء والطبيعة، والمتعب ليس تدريس الدين، بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على مطلوب الدين. لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء، فهذه علوم تعطي الإنسان خير الدنيا فيذهب لها، لكن مسألة الدين مسألة قيم؛ لذلك لا يكفي أن نعلم الدين بل لابد أن تنفذ ذلك العلم، وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة.
وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلاميذ، ثم لا يجدون من أثر هذه المعلومة نضحاً على سلوك مَن علَّمها، ماذا يكون الموقف؟. هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة، وتضعف ثقته في الدين؛ لأنه لم ير من الدين إلا كلاماً يقال، بدليل أن من يقولونه لا ينفذونه، وفي هذا فشل في تعليم منهج الدين، والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم المعلومات الدينية، لا.
إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات، عكس العلوم الأخرى التي تعطي المعلومة فقط. وإن أراد الإنسان أن ينتفع بها في حياته انتفع، وإن لم يرد فهو حر في ذلك.
إذن فالتذكير مرة يكون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، ومرة يكون بالفعل، (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) وماذا يعني التغيير باللسان؟. يعني أن الإنسان إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة. وليس كل إنسان صالحا لأن ينصح؛ لأن المنصوح يخالف المنهج، والناصح يقف أمامه حتى لا يخالف المنهج، إنه يخرجه عما ألف وأحب، لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح.
ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء، والدواء قديماً كان كله مرًّا. وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة، ويمسك الكبار الأطفال ليعطوهم الدواء. وحين ارتقت صناعة الدواء، قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلاف يحجب المرارة. ليتلطفوا مع مريض الجسم، فما بالنا بمريض القيم؟. إنه يحتاج إلى المسألة نفسها. لذلك لابد أن نجعل النصح خفيفاً، ولا نجمع على المنصوح بين أن نخرجه عما ألف وما يكره من الأساليب، ولذلك قلنا: إن النصح ثقيل، لأنك حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكاً منه، وهو أقل منك في ذلك، وهذا هو أول مطب، وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه. ولهذا قالوا في الأثر: النصح ثقيل فلا ترسله جبلا، ولا تجعله جدلاً. وقيل أيضا: الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان. هكذا يكون التذكير، وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول؛ لأن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيِّر على المغيَّر، وهذا لا يأتي إلا بأن يكون للمغير مقدمة وسابقة مع المغيَّر يثبت فيها المغيِّر أنه يحب مصلحة المغيَّر. وقد يكون ذلك وارداً من غير أن تقول. كأن تكون أباه أو أمه، والأب والأم يقومان برعاية الابن، وتلبية احتياجاته طعاماً ومشرباً ومسكناً ومصروفاً. وكل منهما هو المتولي لمصالح الابن. وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح، فعليه أن يتلطف له أولاً بما يحب. فحين يطلب منك أمراً تقوم بإجابته إلى طلبه، وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك قد قدمت له شيئاً من المعروف فيتحمل منك النصح.
ومثال آخر: افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة، وبعد ذلك قالت لك أمه: إنه لم يستذكر دروسه حتى الآن. ثم تأتي له بالساعة وتقول له: يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها لك، وتناولها له وتقول: إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك، ولو تذكرت قولها لما أحضرت لك الساعة.
وقد توجه له توبيخاً فيضحك لأنك قد حننت قلبه، وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح، حتى ولو صفعته قد يقبل لأنه يعلم أنك تحب مصلحته. إذن للتذكير ألوان متعددة: عظة بالقول، وتغيير بالفعل وإنكار بالقلب.
{واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} والأصل في التقوى أن تتقي شيئاً بشيء؛ تتقي مؤلماً بجعل وقاية بينك وبينه، وهي تأتي كما علمنا في المتقابلات؛ فالحق سبحانه يقول: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].
وهو سبحانه وتعالى يقول: {... واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189][آل عمران: 130].
ونجد من يتساءل: كيف يقول: (اتقوا الله)، (واتقوا النار)؟
نقول: نعم؛ لأن اتقوا الله تعني اتقوا غضب الله عليكم، واتقوا عذاب الله لكم بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية، ولابد أن تجعل بينك وبين النار وقاية؛ لأن الحق سبحانه وتعالىَ كما علمنا لَه صفات جلال وصفات جمال، وصفات الجمال هي التي تسعد الإنسان ككونه سبحانه (غفوراً)، و(رحيماً)، (باسطاً)، وكما أن لله صفات جمال تعطيك الرغبة والإقبال عليه سبحانه فله صفات جلال تعطيك الرهبة، فهو- جل شأنه- جبار منتقم. فاتق الله حتى تحجب عن نفسك متعلقات صفات الجلال التي منها جبار منتقم.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن...}.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.