رسميًا.. فتح تقليل الاغتراب 2024 لطلاب المرحلة الثالثة والدبلومات الفنية (رابط مفعل الآن)    عيار 21 يعود للارتفاعات القياسية.. أسعار الذهب تقفز 280 جنيها اليوم الجمعة بالصاغة    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الجمعة 20 سبتمبر 2024    رسميًا.. إعادة تشكيل مجلسي إدارة بنكي الأهلي ومصر لمدة 3 سنوات    أسعار الفاكهة اليوم الجمعة 20-9-2024 في قنا    بايدن: الحل الدبلوماسي للتصعيد بين إسرائيل وحزب الله "ممكن"    فلسطين.. ارتفاع عدد الشهداء إلى 7 جراء القصف الإسرائيلي لمنزل وسط مدينة غزة    عاجل| إسرائيل تواصل الضربات لتفكيك البنية التحتية والقدرات العسكرية ل حزب الله    الصومال:ضبط أسلحة وذخائر في عملية أمنية في مقديشو    مصطفى عسل يتأهل لنصف نهائي بطولة باريس للاسكواش    هل يتم تشفير الدوري؟ رد حاسم من رابطة الأندية    خزينة الأهلي تنتعش بأكثر من 3 ملايين دولار (تفاصيل)    مصرع شاب دهسته سيارة مسرعة أمام مرور حلوان    حالة الطقس اليوم الجمعة 20-9-2024 في محافظة قنا    بعد فيديو خالد تاج الدين.. عمرو مصطفى: مسامح الكل وهبدأ صفحة جديدة    عبد الباسط حمودة عن بداياته: «عبد المطلب» اشترالي هدوم.. و«عدوية» جرّأني على الغناء    «ابنك متقبل إنك ترقصي؟» ..دينا ترد بإجابة مفاجئة على معجبيها (فيديو)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 20-9-2024    رئيس الوزراء يصدر قرارًا بإعادة تشكيل مجلس إدارة بنك مصر    الأوقاف تعلن خريطة افتتاح المساجد الجديدة اليوم الجمعة    نقيب الأشراف يكرم عددًا من الشخصيات خلال احتفالية المولد النبوي الشريف    مصدر من كاف يكشف ل في الجول إمكانية تأجيل مجموعات دوري الأبطال والكونفدرالية    فلسطين تعلن قبول اعتذار الكويت ونقل مباراتهما إلى قطر    اتحاد الكرة: نفاضل بين الأجنبى والمصرى للجنة الحكام وشيتوس مستمر مع الشباب    الخسارة الأولى.. برشلونة يسقط أمام موناكو في دوري أبطال أوروبا    الإسماعيلي يعلن تشكيل لجنة فنية لاختيار المدرب الجديد    محافظ القليوبية: لا يوجد طريق واحد يربط المحافظة داخليا    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: لن نعود لقطع الكهرباء مرة أخرى    الأمن يوضح حقيقة فيديو سحب شرطي لتراخيص سيارة بدون وجه حق بالقليوبية    النيابة تصرح بدفن جثة ربة منزل سقطت من الطابق السابع في شبرا الخيمة    ضبط 5000 زجاجه عصائر ومياه غازية مقلدة بمصنع غير مرخص وتحرير 57 مخالفة تموين بالإسماعيلية    المؤبد لعامل لاتجاره في المواد المخدرة واستعمال القوة ضد موظف عام في القليوبية    تطورات أحوال الطقس في مصر.. أتربة عالقة نهارا    وزير الخارجية يواصل عقد لقاءات مع أعضاء الكونجرس    حسن نصر الله: "تعرضنا لضربة قاسية وغير مسبوقة".. ويهدد إسرائيل ب "حساب عسير" (التفاصيل الكاملة)    التفجير بواسطة رسائل إلكترونية.. تحقيقات أولية: أجهزة الاتصالات فُخخت خارج لبنان    رئيس مهرجان الغردقة يكشف تطورات حالة الموسيقار أحمد الجبالى الصحية    يا قمر، عمرو دياب يتألق بحفل الأهرامات وسط حضور كامل العدد (فيديو)    أول تعليق من أمير شاهين على فرح نجل شقيقه المثير للجدل| خاص بالفيديو    حدث بالفن| هشام ماجد يدعم طفلا مصابا بمرض نادر وأحدث ظهور ل محمد منير وشيرين    رمزي لينر ب"كاستنج": الفنان القادر على الارتجال هيعرف يطلع أساسيات الاسكريبت    بارنييه ينتهي من تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة    نقيب الأشراف: قراءة سيرة النبي وتطبيقها عمليا أصبح ضرورة في ظل ما نعيشه    حكاية بسكوت الحمص والدوم والأبحاث الجديدة لمواجهة أمراض الأطفال.. فيديو    وكيل صحة قنا يوجه بتوفير كل أوجه الدعم لمرضى الغسيل الكلوي في المستشفى العام    فيلم تسجيلي عن الدور الوطني لنقابة الأشراف خلال احتفالية المولد النبوي    البلشي: إطلاق موقع إلكتروني للمؤتمر العام السادس لنقابة الصحفيين    رئيس جامعة القناة يتفقد تجهيزات الكلية المصرية الصينية للعام الدراسي الجديد (صور)    أمين الفتوى: سرقة الكهرباء حرام شرعا وخيانة للأمانة    التحالف الوطني للعمل الأهلي يوقع مع 3 وزارات لإدارة مراكز تنمية الأسرة والطفولة    مرصد الأزهر يحذر من ظاهرة «التغني بالقرآن»: موجة مسيئة    مدبولي: الدولة شهدت انفراجة ليست بالقليلة في نوعيات كثيرة من الأدوية    الداخلية تضبط قضيتي غسيل أموال بقيمة 83 مليون جنيه    بينها التمريض.. الحد الأدنى للقبول بالكليات والمعاهد لشهادة معاهد 2024    التغذية السليمة: أساس الصحة والعافية    فحص 794 مريضًا ضمن قافلة "بداية" بحي الكرامة بالعريش    من هن مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم وإِخوته في الرَّضاع وحواضنه؟ الأزهر للفتوى يجيب    وزير التعليم العالي: لدينا 100 جامعة في مصر بفضل الدعم غير المحدود من القيادة السياسية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موقف السيدة «خديجة» من الوحي
نشر في الفجر يوم 23 - 03 - 2016


عودته صلى الله عليه وسلم إلى خديجة:
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهو خائف للغاية، فكان أول ما فعله أن جلس إلى جوار خديجة بنت خويلد رضي الله عنها؛ بل إنه اقترب بها ليسكن فؤاده، كما تقول الرواية: "فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا". أي ملتصقًا بها يطلب الأمان صلى الله عليه وسلم، وحكى لها كل شيء، مع خطورة الحدث الذي مرَّ به. حكى لها تفصيلات الرؤيا، وحكى لها كذلك ما رآه من جبريل وهو يقف في السماء، وحكى لها أنه قد صرح له أنه رسول الله، وعرَّف نفسه أنه جبريل.
ويلفت النظر هنا أمران؛ وأنا أعتقد أن هذين الأمرين هما من أهم أعمدة الأسرة الناجحة، ومن أهم موجبات السعادة الزوجية:
أما الأمر الأول فهو أن الزوجة خديجة رضي الله عنها تحقق أهم أعمال المرأة قاطبة، وهي أن تكون سكنًا لزوجها، وراحة لقلبه، وأمانًا لكيانه، وخاصة عند الأزمات الكبرى، وقد ذكر ربنا عز وجل هذا الأمر في كتابه الكريم عندما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. فجعل مهمَّة الزوجة الأولى أن تُسَكِّن زوجها {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}، وكرر سبحانه المعنى نفسه في سورة الأعراف عندما قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
ففي هاتين الآيتين ذكر الله عز وجل أن مهمَّة الزوجة الأولى هي تسكين الزوج؛ خاصة أن الأزواج يعملون في خارج البيوت، وتقابلهم الأزمات الكثيرة، ويعملون في الجهاد في سبيل الله، وكذلك في الدعوة إلى الله عز وجل، ويكتسبون المعاش، ويمرُّون بأمور صعبة كثيرة، فيحتاجون إلى تسكين الأفئدة حتى يستطيعوا بعد ذلك إكمال مشوارهم في الحياة بشكل طبيعي وهادئ، والموقف الذي بين أيدينا في السيرة الآن هو حالة مثالية لتوصيف هذا الأمر؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الحالة المرتعبة لم يُفَكِّر في أن يذهب إلى أحد أصدقائه، كأبي بكر رضي الله عنه أو غيره من أصحابه في مكة، وهم كُثُر -لا شك- ولم يُفَكِّر في أن يذهب إلى حكيم من حكماء القوم يستفسر منه عن طبيعة هذا الأمر، ولم يذهب حتى إلى عمِّه أبي طالب الذي ربَّاه وآواه، أو عمِّه أبي لهب، أو غيرهما من أعمامه، إنما ذهب في الحقيقة لمن "يُسَكِّن" له خوفه، فهذا من أكبر أسباب تكوين الأسرة الناجحة؛ أن تكون المرأة سكنًا لزوجها في البيت.
وأما الأمر الثاني فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كزوج- يُخبر زوجته بهمومه ومشكلاته كلها، ولا يعزلها عن حياته، بل يحكي لها أدقَّ التفصيلات، ويأخذ رأيها، ويستعين بمشورتها، ويستجيب لتأييدها، ويُشاركها في كل همومه وأفكاره وطموحاته وآماله، وهذا مما يسهم -ولا شك- في سعادة البيت، وفي قوة الأسرة، وأنا أعتقد أنه لو تحقق هذان الأمران لسعدت البيوت كثيرًا.
رد فعل خديجة رضي الله عنها:
نعود إلى موقف رسولنا صلى الله عليه وسلم بعد أن حكى لزوجته كل شيء عن الرؤيا والملك، والتصريح أنه رسول الله، لننظر ماذا فعلت خديجة رضي الله عنها بعد أن سمعت هذه الكلمات العجيبة.
الحقُّ أن ردَّ فعل خديجة رضي الله عنها كان عجيبًا جدًّا، فقد قالت له بمنتهى الثبات: "أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمِّ وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ! إنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ".
جميلٌ أن تُبَشِّره في موقف يحزن فيه، وجميلٌ أن تُثبِّته في موقف يضطرب فيه، لكن الأجمل والأعجب ما قالته: "إنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ"! والواقع أننا نُريد أن نقف مع هذه الكلمة وقفات؛ فهذا يدلُّ على أن خديجة رضي الله عنها كانت تعرف أن هناك رسولاً سيُبعث في هذه الأيام، وكانت -لا شك- تتمنَّى أن يكون هذا الرسول هو زوجها، وهذا واضح في كلمتها: "إنِّي لأَرْجُو". بل إنها على الأغلب كانت تشعر أن زوجها سيكون هذا الرسول؛ فالأمر عندها ليس مجرَّد أمنيات، ولكنه شيء مبني على أدلَّة ووقائع.
الذي يدعونا لهذا التوقُّع من خديجة رضي الله عنها أن هناك خلفيات لهذا الأمر؛ منها ما رواه ابن إسحاق في المبتدأ، ونقله عنه ابن سعد وغيره، عندما قال: "كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يومًا فيه، فجاءهن يهودي فقال: يا معشر نساء قريش إنه يوشك أن يكون فيكن نبي، فأيكن استطاعت أن تكون فِراشًا له فلتفعل. فحصبه النساء وقبَّحنه وأغلظن له، وأغضت (سكتت) خديجة على قوله، ولم تعرض فيما عرض فيه النساء، ووقر ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، وما رأته هي، قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقًّا ما ذلك إلا هذا".
فهذه الرواية تذكر فيها خديجة رضي الله عنه أنه قد جاءهم يهودي في شبابها، وأنبأهم أنه سيبعث في هذا المكان نبي، وأن التي ستتزوَّج هذا النبي سيكون لها شرف هذا الزواج وعظمته، والحق أن الرواية -وإن كانت ضعيفة السند- فإنه لا يُستبعد أن تكون صحيحة؛ لأننا نعلم من روايات صحيحة أن اليهود كانوا يعرفون أن مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون في مكة. فعن كعب قال: نَجِدُهُ مَكْتُوبًا في التوراة: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ فَظًّا وَلاَ غَلِيظًا، وَلاَ صَخَّابًا (الصخب الصياح والجلبة وشدة الصوت واختلاطه) بِالأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يُكَبِّرُونَ اللهَ عز وجل عَلَى كُلِّ نَجْدٍ، وَيَحْمَدُونَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، يَتَأَزَّرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ، وَيَتَوَضَّئُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ، صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ، وَصَفُّهُمْ فِي الصَّلاَةِ سَوَاءٌ، لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ".
فسواء كانت قصة اليهودي صحيحة أو غير صحيحة، فمعنى ذلك أن اليهود كانوا يعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر في مكة المكرمة، وبالتالي قد يكون أحد اليهود قد أخبر بالفعل نساء مكة بهذا الأمر، وكانت خديجة رضي الله عنها متوقِّعَة هذا الظهور.
وقد أشارت الرواية –أيضًا- إلى شيء آخر؛ هو ما تعلَّق بأمر ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها، مع العلم أن قصته كذلك ليست ثابتة في الصحيح، ولكنها اشتهرت في كتب السيرة ولعلَّ لها خلفية ما، وخاصة أن هناك علاماتٍ كثيرةً كانت مع رسولنا صلى الله عليه وسلم في فترة شبابه تُشير إلى أنه ليس إنسانًا عاديًّا كبقية الناس. ويمكن أن نُضيف إلى ذلك احتمال سماع خديجة رضي الله عنها من ابن عمِّها ورقة شيئًا يدلُّ على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من المحتمل أن يكون بعد ذلك رسول الله، ويُؤيد ذلك رواية أحمد، التي مرَّت بنا قبل ذلك، وقال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها: "إِنِّي أَرَى ضَوْءًا، وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جَنَنٌ". قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللهِ. ثُمَّ أَتَتْ ورقة بن نوفل، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيُّ، فَسَأُعَزِّرُهُ، وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ.
فهذه الرواية تصف موقفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء شبابه قبل موضوع الرؤيا الصادقة، وقبل موضوع الوحي؛ فهي تحكي موقفًا مبكِّرًا سمعت فيه خديجة رضي الله عنها أنه من المحتمل أن يكون الذي يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمعه هو علامات مثل علامات ظهور جبريل للأنبياء.
هذه كلها خلفيات كانت في ذهنها، وأنا أعتقد أنها فعلاً كانت تتوقَّع ظهور النبي؛ لأنها تتعامل مع الموقف بسلاسة عجيبة، ولم تقل له مثلاً: وماذا يعني: "رسول الله؟". ولم تقل له: وهل يُرسل الله رسولاً من البشر للناس؟ ولم تقل له: ومن هو جبريل؟ ولم تضع احتمالاً أن يكون الأمر مجرَّد أوهام، ولم تفزع قطُّ، مع أن كل هذه علامات عجيبة، نعم خديجة رضي الله عنها امرأة كاملة، وسيدة عظيمة، لكن هذه القضايا التي يتكلَّم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قضايا علمية، تحتاج إلى دليل، أو إلى توقُّع، حتى يمكن أن تُفْهَم على الشكل السليم.
إن كونها لم تسأل كل هذه الأسئلة، ولم تستفسر استفسارًا يُوَضِّح لها الفهم الصحيح للقصة، كل هذا يدلُّ على أن عندها خلفية ما عن هذا الأمر، وتوقُّع له؛ ومن ثَمَّ انطلقت بمنتهى الوضوح تقول: "إنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ".
والدليل الأكبر لكونها كانت تتوقَّع أن يظهر نبي في هذا الزمن، هو ذهابها بعد ذلك إلى ورقة بالتحديد، فغالبًا ورقة هو الذي كان يتحدَّث عن هذا النبي، وقساوسة الشام النصارى كانوا يعرفون أن النبي سيظهر في هذا الوقت، وظهر ذلك في كلام القسيس الذي تكلم معه سلمان الفارسي رضي الله عنه قبل ذلك، فهذا يعني أنه كان مشتهرًا بين رجال الدين النصارى -وكان ورقة منهم- أن هناك نبيًّا سيظهر في هذا التوقيت.
ثم إنها رضي الله عنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فترة طفولته وشبابه بعض الأحداث، التي لا تحدث مع البشر العاديين؛ كشقِّ الصدر، وكسلام الحجر عليه، وكندائه من قبل السماء غير مرَّة، مما يُعطي الانطباع أنه ليس كعامة أهل مكة، بل ليس كعامة الناس أجمعين.
وأيضًا رأت رضي الله عنها من أخلاقه ما لا يتحلَّى به إنسان آخر أبدًا، ولقد وصفت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يصل الرحم ويحمل الكل .. إلى آخر وصفها، الذي يدلُّ على أن هذه الصفات مجتمعة لم تكن موجودة في أحد الرجال في أهل مكة.
إن سرعة إيمان خديجة بما سمعته يُؤَكِّد أنها كانت تتوقَّع الأمر؛ لأنها لم تسأل عن تفصيلات قطُّ، مع أنها لم ترَ حتى هذه اللحظة معجزاتٍ بعدُ تجعلها تطمئنُّ، يُظَلِّل كل ذلك أنها تتعامل مع الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكذب في حياته قط؛ ومن ثَمَّ كان كلامه لا يحتاج إلى أي دليل آخر لإثباته.
ذهاب خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بمفردها:
ذهبت خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، فأخبرته خديجة رضي الله عنها بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة بن نوفل دون تردد: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ! لَئِنْ كُنْتِ صَدَّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ فَقَوْلِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ". كان ردُّ فعل ورقة حاسمًا وواضحًا، ولم يتردَّد في إبداء رأيه في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسول هذه الأُمَّة.
ولنا ملاحظات على ردِّ فعل ورقة بن نوفل:
أولاً: لم يقل ورقة: لئن كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد صدق. إنما قال: لئن كنتِ صدقتيني يا خديجة. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عنده فوق الشبهات، مع أن الذي يرويه محمد صلى الله عليه وسلم ابتداءً أعجب من الذي تنقله خديجة؛ لكنه لم يشك في الكلام العجيب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إنما شكَّ في أن يكون النقل عنه غير دقيق، وهذا يُذَكِّرنا بالموقف المشهور للصديق رضي الله عنه في الإسراء عندما قال: "لئن كان قال ذلك لقد صدق".
ثانيًا: يذكر ورقة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيكون نبي هذه الأمَّة، والأمَّة في تعريف ورقة قد يكون المقصود بها العرب؛ لما قد يكون موجودًا في التوراة والإنجيل من دلالات وعلامات للنبي المنتظر، وفي أنه يخرج في هذه الأُمَّة العربية، وقد يكون المقصود بالأمَّة العالم أجمع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العالمين، والعالم جميعًا أمَّته؛ إما أمَّة إجابة، وهي التي استجابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي المسلمين، وإما أمَّة دعوة، وهم الذين لم يستجيبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوجَّه إليهم دومًا بالدعوة والرسالة؛ فهو الرسول الخاتم، ومن المؤكَّد أن ورقة يعلم من كتبه أن هذا هو الرسول الأخير في تاريخ الدنيا.
ثالثًا: عَرَّفَ ورقةُ بن نوفل الرجلَ الذي جاء محمدًا صلى الله عليه وسلم في الغار في رؤياه أنه الناموس الأكبر، والناموس هو صاحب السرِّ؛ فالله عز وجل يُطلع جبريل عليه السلام على سرٍّ لا يُطلع غيره عليه؛ وهو سرُّ الوحي: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27]. فعَرَّف بذلك جبريل عليه السلام على أنه المَلك الرسول، الذي يأتي من قِبَلِ ربِّ العالمين للأنبياء؛ لكنه أشار أنه الناموس الذي كان يأتي موسى عليه السلام، ولم يقل: الذي كان يأتي عيسى عليه السلام، مع أنه نصراني؛ وذلك من المحتمل لأن الشريعة الرئيسية للنصارى هي شريعة اليهود في الواقع مع بعض التعديلات التي جاء بها عيسى عليه السلام؛ وذلك مصداقًا لقوله عز وجل على لسان عيسى ابن مريم: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران: 50]. فموسى عليه السلام هو صاحب الشريعة الرئيسية التي يرتبط بها جمهور النصارى بشكل عام، مع بعض الأمور التي جاء بها عيسى عليه السلام في الشريعة الجديدة، وهكذا صارت التوراة هي العهد القديم بالنسبة إلى النصارى؛ بينما الإنجيل هو العهد الجديد لهم، وكلا الكتابين مقدَّس عندهم، ومن المحتمل أن يكون ورقة قد ذكر موسى عليه السلام لأنه أول أنبياء بني إسرائيل بشكل عام، وعيسى كذلك من أنبياء بني إسرائيل، وكل مَنْ جاء من بعد موسى عليه السلام فهو على دينه، وأخيرًا من المحتمل أن يكون ورقة قد قال ذلك لأن اليهود والنصارى جميعًا يؤمنون بموسى عليه السلام؛ بينما لا يؤمن اليهود بعيسى عليه السلام؛ فيكون قول ورقة بن نوفل جامعًا لليهود والنصارى؛ أي لأهل الكتاب، في أنهم جميعًا يؤمنون بجبريل الذي أتى موسى عليه السلام.
رابعًا: في تعليقنا على ردِّ فعل ورقة بن نوفل هو أنه لم يتردَّد ولا لحظة في إبداء رأيه، وفي هذا دلالة على أمور؛ منها أنه كان في الأغلب يتوقَّع ظهور النبي الآن، ويتوقَّع ظهوره في هذه البلدة تحديدًا، ولا شكَّ أن عنده من العلم ما يُعطيه هذا التأكُّد؛ خاصة أنه ردَّ على خديجة بمنتهى الثبات، ولم يشك في كون النبي يُبعث في هذا البلد، ومنها كذلك أنه كان يُلاحِظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات معينة، وبالتالي لم يظهر عجبه أن جاءت النبوة إليه، ولم تجئ إلى غيره، ولعلَّ ما سألت عنه خديجة رضي الله عنها قبل ذلك بشهور أو سنوات عندما سألته عن الضوء والصوت الذي يراه ويسمعه محمد صلى الله عليه وسلم، فعلَّق على ذلك أنه من المحتمل أن يكون نبي هذه الأمَّة، ولما جاءت العلامات المؤكِّدة من لقائه بالناموس الأكبر -وإن كانت في رؤيا- فإن ورقة بن نوفل أظهر إيمانه الجازم بأن هذا هو رسول هذه الأمَّة، ومنها كذلك أنه كان متجرِّدًا مخلصًا لا يطمع في شيء لنفسه؛ ولذلك أعلنها صريحة، بل سيُعلن بعد ذلك أنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيمانه، وسوف يدعمه بكل ما أوتي من قوة إن أبقى الله عز وجل فيه حياة.
كان هذا هو موقف ورقة بن نوفل رحمه الله؛ وهو من المواقف المشرفة في تاريخ السيرة النبوية.
عودة خديجة إلى زوجها صلى الله عليه وسلم:
عادت خديجة رضي الله عنها إلى زوجها صلى الله عليه وسلم، وأخبرته بما قاله ورقة بن نوفل، ولا شكَّ أن هذا الكلام قد وقع منه موقعًا كبيرًا؛ فالآن محمد صلى الله عليه وسلم يتوقَّع بنسبة كبيرة جدًّا أن يكون هو نبي هذه الأُمَّة، ليس هذا على وجه اليقين عنده، ولكن كثرت الدلائل؛ منها:
أولاً: الأمور الغريبة التي حدثت في حياته قبل ذلك؛ مثل شق الصدر، وسلام الحجر، والرؤيا الصادقة، ومنها الكلمات التي قالها الرجل في المنام، وهي ليست من كلمات البشر، ومنها الرجل الذي وقف في السماء في كل الاتجاهات، وهو وقوف عجيب لا يمكن لأحد من البشر أن يفعله، ومنها تصريحه بالرسالة له عندما قال له: أنت محمد رسول الله وأنا جبريل. وأخيرًا منها كلام ورقة بن نوفل، والتأكيد الذي ذكر به الأمر، وعدم التردُّد فيه، وذِكْر أن ذلك في كتب التوراة والإنجيل.
عندما وصل هذا الانطباع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرَّر أن يُكْمِل جواره أو اعتكافه في غار حراء؛ ومن ثَمَّ عاد إلى هناك، وعودة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء تُعطي الانطباع أنه صار مُصدِّقًا للأمر، ولم يَعُدْ خائفًا منه؛ لأن الرعب لو كان يغلب عليه ما عاد إلى حراء ثانية؛ ولكنه عاد على أمل أن يلقى جبريل عليه السلام على الحقيقة كما جاء في رؤياه؛ لأنه تعوَّد في الشهور الستة الأخيرة أن تتحقَّق رؤياه، وتأتي كفلق الصبح كما ذكرت عائشة رضي الله عنها في روايتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.