لا شك في أن الحركة المسرحية تمثل رافدا رئيسا في الثقافة المصرية، وعشاق المسرح رغم سيطرة السينما والتليفزيون ما زالوا في ازدياد مطرد رغم سيطرة التكنولوجيا، وما زال الوقوف على خشبة المسرح حلما للفنانين، وشغفا للمتفرجين. إلا أن مشكلة المسرح دائما في تكلفته حيث يحتاج إلى إنتاج ضخم، وإلى تكلفة عالية وجهد كبير من فريق العمل. ويهمني هنا أن أعرض لتجربة غاية في الأهمية والثراء قام بها وقدمها الدكتور جمال ياقوت، أستاذ المسرح بجامعة الإسكندرية والحائز على جائزة الدولة التقديرية، وياقوت يسعى منذ سنوات بدأب في العمل الثقافي وله بصمته المتميزة في مجال المسرح. أنشأ ياقوت مهرجانا باسم "مسرح بلا إنتاج" تقوم فلسفته على تعويض غياب التمويل، عن طريق إعمال خيال فريق العمل للوصول إلى حلول مبتكرة للتعبير عن الفكرة التي يطرحها العرض، بحيث يتم ترشيد المواد المستخدمة بالصورة التى تتفق مع إعلاء قيمة الفكر، وإيجاد الحلول الإخراجية الخلاقة. ويهدف المهرجان لمنح فرص غير محدودة لشباب المسرحيين، لتوفير مناخ يشجعهم على تقديم عروضهم بصورة تحمل رسائل تنويرية، تشارك في صنع مستقبل أفضل للوطن، بما يكفل زيادة الإقبال الجماهيري، وذلك عن طريق المناقشات التي تعقد عقب كل ليلة عرض، بالإضافة إلى التأكيد على مبدأ حرية الإبداع، من خلال تقديم العروض التي تناقش كافة القضايا بعيداً عن الرقابة، ولكن بما لا يسيء للقيم المرجعية المتعارف عليها، سواء كانت أخلاقية أو دينية. انطلق هذا المهرجان في 2008 بقصر ثقافة التذوق بالإسكندرية بالصدفة بعد الإعلان عن فتح باب الانضمام لفرق القصر أمام المخرجين والممثلين الجدد، وبالفعل تقدم للمشاركة عدد كبير جدًا من الموهبين والمتميزين، تم إلحاقهم بورشة تدريبية في فنون المسرح، انتهت بتقديم عروض صغيرة كنتاج للتدريب. لاقت الفكرة وقتها نجاحًا لافتًا، وحضورا جماهيريا غير متوقع، وهو ما دفع ياقوت لاستثمار الفكرة وتطويرها، وصولًا إلى إقامة مهرجان كامل تحت مسمى "مسرح بلا إنتاج"، بمشاركة شباب محب للمسرح، دون الاعتماد على أي دعم مالي، ودون انتظار المدد المالي الحكومي، وكانت النتيجة مبهرة. ويرفض ياقوت –وله الحق- تشبيه المهرجان بأي مهرجان مسرحي آخر يقام في مصر، بخاصة التي تعقد بتمويل حكومي كامل، سواء في فعاليات المهرجان أو إنتاج العروض المشاركة، ومنحها جوائز مالية، لأن كافة عروض المهرجان تقدم دون أي تمويل، كما يقدم المهرجان جائزة مبتكرة بعنوان أفضل الحلول الخلاقة. ورشحت بعض العروض من المهرجان للمشاركة في مهرجانات مسرحية دولية بمختلف أنحاء العالم، كان منها عرض "القطة العامية" للمخرج أحمد عزت الألفي، الذي فاز في الدورة الرابعة للمهرجان، وسافر لتمثيل مصر في إسبانيا وروسيا والمغرب. وتطور المهرجان ليضم فرقا عربية ودولية وليكون له سمعة دولية وعالمية، كما يقوم خلاله بتنفيذ ورش عمل في الإنتاج المسرحي، بإشراف السويدي ريوناردوا كولدارج، بالإضافة إلى ورشة حول كيفية تنظيم وإدارة المهرجانات ونظم الإنتاج، في مقارنة بين مصر وإنجلترا وفرنسا والسويد. يهتم المهرجان أيضا بزيادة الاحتكاك بين مصر والدول المشاركة، وتبادل الخبرات المسرحية، من خلال العروض المسرحية والورش الفنية والندوات، ومسايرة التيارات المسرحية المتجددة على مستوى الفكر والأداء والتقنية. إن فكرة "مسرح بلا إنتاج" هي فكرة عبقرية في وقت نحتاج فيه إلى مثل هذه الأفكار لتنمية الذوق والوعي الثقافي لدى المواطن، ويجب أن نمد أيدينا لندعم مثل هذه الأفكار، لا أن نحاربها كما يحدث أحيانا، وجمال ياقوت شاهد على ذلك. نقلا عن الأهرام