صدق أو لا تصدق.. العالم الغربى الآن لا يريد الديمقراطية!.. على الأقل هذا ما يقوله الكتاب الجديد الذى أصدرته مجلة الإيكونوميست البريطانية، محاولا رسم صورة للعالم فى عام 2050.. كان الكتاب يحمل عنوان التغيير الكبير: من 2020 وحتى 2050.. ويحاول أن يفهم ما الذى يمكن أن يحدث فى البيئة.. والسياسة.. والاقتصاد.. والدين.. والحروب. كانت المفاجأة التى يصر عليها كتاب الإيكونوميست هى أن الديمقراطية ستتراجع فى الدول التى عرفتها.. ومارستها.. وجربتها قبل أن تفكر فى التراجع عنها بسبب عيوبها التى تفوق نفعها بكثير.. وهو ما سيجعل الديمقراطية.. بكل المصطلحات الرنانة التى ترتبط بها.. مثل الانتخابات النزيهة.. الحرة.. وإرادة الناخبين.. كلها بضاعة غير رائجة فى العالم الغربى.. أصابت سكانه بعسر الهضم.. فصدروها إلى دول العالم النامى التى ما زالت لا تعرف عيوبها.. بنفس المنطق الذى يصدرون به الأدوية ذات الآثار الجانبية التى لا يقبلون تداولها فى أسواقهم. لكن.. ولأن العالم العربى مثلا ما زال فى شوق للديمقراطية.. وما زال يتعامل معها على أنها مثل القمر الذى لا يرى منه سوى جانبه المضىء.. بينما هبط عليه العالم الغربى ورأى جانبه المظلم.. فإن الإيكونوميست تقول إنه فى عام 2050 سوف يكون الناس فى العالم الغربى قد نسوا تماما فكرة الديمقراطية.. واعتبروها مجرد موضة.. حركة أخذت مجدها منذ سقوط سور برلين ب«قوة الشعب» .. انتصرت فى أمريكا اللاتينية.. ودول إفريقيا.. وبعض ثورات الربيع العربى.. لكن.. كانت الديمقراطية فى الأساس مجرد فكرة لمواجهة المد الشيوعى وسيطرة الحكم العسكرى على البلاد.. وهو وضع لم يعد موجودا تقريبا.. فحتى الدول التى يتحكم فيها حكم الحزب الواحد مثل فنزويلا.. لا يعارض رئيسها فكرة التعددية الحزبية، ولو كعرض مسرحى. لكن.. عام 2050.. ستكون للديمقراطية حكاية أخرى.. ستكون الديمقراطية قد ازدهرت بشدة فى الدول التى تفتقر إليها حاليا مثل مصر.. فى الوقت الذى ستتقلص فيه بشدة فى الدول التى تمتلكها بالفعل حاليا مثل أمريكا.. والمنطق وراء ذلك بسيط: أن الدول التى ظلت لسنوات طويلة تعانى حكم الحزب الواحد ما زالت «جائعة» لمناخ سياسى فيه المنافسة مفتوحة بين الأطراف السياسية المختلفة.. وحرية تداول المعلومات.. فى تلك الدول، سيجد الرؤساء القادمون صعوبة أكبر فى السيطرة على شعوبهم التى سيدرك أفرادها قوة وحجم ومدى تأثيرهم فى الاختيار. إن الديمقراطية، عند ممارستها على أرض الواقع.. نظام هش.. يسهل اختراقه والتلاعب به من التيارات السياسية المختلفة.. وهو ما يجعل الديمقراطية، عام 2050، لها شكل آخر غير ما نتصوره اليوم.. سيتذكرها الناس على أنها إحدى الموضات التى كانت سائدة فى العالم قبل أن تختفى.. تماما مثل الشيوعية من قبلها.. سيذكرونها على أنها كانت فكرة نالت قدرا من الدعاية أكبر من قدراتها، وإمكانياتها الحقيقية. يكمن الخطأ.. أو الخطر الأساسى للديمقراطية، فى أنها من الممكن جدا أن تتحول فى لحظة إلى ورقة توت.. تغطى عورات الإدارة الفاشلة.. أو الحكم السيئ الذى يعجز عن حل مشاكل الناس.. تخيل مثلا رئيسا وصل إلى الحكم بطريقة ديمقراطية.. أى أن الأغلبية أعطته أصواتها، وانتصر بتأييد أكثر الناس على منافسيه.. ثم فشل فى حل مشاكل البلاد وتصريف أمورها.. عندها يمكن أن يلعب بورقة نجاحه فى الانتخابات النزيهة الحرة الديمقراطية.. ويواصل فشله فى الحكم مدعيا أنه يحظى بتأييد الأكثرية. والواقع أن الديمقراطية تتلاعب بالناس من خلال طريقتين.. كل منهما بدأت آثارها تظهر بوضوح فى دول العالم العربى، على الرغم من أن الدول الغربية الآن بدأت تدرك خطورتها وتحاول البحث عن نظام سياسى بديل لها: أول هذه العيوب هو عيب المال: هناك أسئلة تدور مثلا حول مصادر تمويل الأحزاب والتيارات السياسية التى تلعب على الأرض، ومدى تأثير هذه الأموال الخفية على اتجاهات هذه القوى.. خاصة أن أحدا لا يمكنه أن يتعقب مصادر التمويل السرية للأحزاب ولا حتى فى أمريكا نفسها. النقطة الثانية هى مدى تدخل المؤسسات وأصحاب المال فى لعبة السياسة.. فكلها أطراف من مصلحتها أن يتم شراء السياسيين والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والمفكرين وغيرهم.. فلا توجد مؤسسة مالية فى عالم اليوم يمكن أن تبعد نفسها عن السياسة، ومنطق الأعمال يقول: إنه لو لم تلعب لعبة السياسة القذرة بإرادتك، فسيلعبها خصومك، ولغير صالحك، وحتى مؤسسات أمريكية كبرى مثل جوجل ومايكروسوفت، كانت تفخر بابتعادها عن السياسة واستقلالها عن دوائر صنع القرار فى واشنطن، وجدت أنه من الضرورى أن تفتح اتصالاتها مع السياسيين هناك، وأن تكون مكاتب وجماعات ضغط للحفاظ على مصالحها فى إطار قرارات الإدارة الأمريكية. إن الديمقراطية لعبة يربحها دائما من يعرف أصولها جيدا.. ويستفيد منها أيضا، من يعرف نقاط ضعفها.. لقد أدرك العالم كله، كما تقول الإيكونوميست، إن أسوأ عيوب الديمقراطية يكمن فى سهولة التلاعب بها، من يعرف كيف يتلاعب بالأصوات.. وبعمليات الفرز.. يعرف جيدا كيف يوجه الأصوات فى الاتجاه الذى يريد.. لاحظ العالم الغربى، المتقدم فى لعبة الديمقراطية، ما لم نلاحظه نحن المبتدئين فيها، وهو أن أسوأ رؤساء وحكومات العالم هى التى تندفع الآن فى أحضان الديمقراطية وتطالب بها، فهذه الحكومات هى اكثر من يستفيد من الديمقراطية، ولكن.. من خلال اللعب بها. كل ما يحتاجه أى رئيس يريد أن يحكم شعبه على هواه، هو أن يمتلك الإعلام أولا فى صفه.. فمن يملك الإعلام وغيره من وسائل التأثير فى الرأى العام حاليا، يمكنه أن يدفع حشود الناخبين بسهولة لصالحه.. ولا يمكن الاستهانة بلعبة الإعلانات هنا.. ولا بقدرة المال والمصالح الاقتصادية فى الضغط على المفكرين والإعلاميين لدعم اتجاه أو رئيس معين.. أو استنزاف طاقاتهم وقدراتهم على المعارضة والمواجهة.. يخضع الإعلام لضغط الرأى العام فى لعبة متبادلة.. بحيث يخضع الكل لأى مرشح يعرف كيف يحشد وراءه أكبر عدد من الكتل التصويتية بكل الطرق.. معتمداً أحيانا على الأحزاب السياسية التى تركت من زمن طويل لعبة السياسة.. وتفرغت للعبة البيزنس السياسى