«نحن مهملات عديمات الجدوى وبالتالى تعيسات. ما من مكان إلا ويحتاج للنساء، فهناك الكثير الذى يمكننا أن نقوم به، ولكن تقاليد البلاد تمنعنا من ذلك. ربما كانت معاناتنا ستقل لو كنا نؤمن بالقدر الذى آمنت به جداتنا، لكننا بحكم الثقافة، وكما يحصل غالبا، بدأنا نشك بحكمة الإيمان الذى كان من الممكن أن يشكل عزاء لنا. حللنا حياتنا فلم نجد فيها سوى الظلم والقسوة والحزن الذى لا مسوغ له. إن الخضوع والثقافة لا يمكن أن يلتقيا». هذه فقرة من مذكرات جارية تركية متعلمة فى بداية القرن العشرين، قبل سنوات من سقوط الخلافة العثمانية، تذكرها الكاتبة والروائية «أليف كروتيه» فى كتابها « عالم الحريم – خلف الحجاب» الصادر بالانجليزية عام 1998، والذى ترجم للعربية عن دار نشر «الكلمة» منذ عدة سنوات. أليف ليتل كروتيه تركية الأصل تعيش فى الولاياتالمتحدة، هى حفيدة لواحدة من جوارى آخر السلاطين الأتراك، عبد الحميد الثانى، الذى أطاح به أتاتورك عام 1923، منهيا نظام الخلافة إلى غير رجعة، مؤسسا الدولة التركية العلمانية الحديثة. تسعون عاما تقريبا مرت على سقوط الخلافة العثمانية، ولكننا لم نزل نسمع إلى اليوم تنهدات وآهات المتباكين عليها، الحالمين برجوعها. وحين تسأل هؤلاء المتباكين عن مزايا الخلافة، وعن الفترة التى يرغبون فى استعادتها بالتحديد، لن تسمع إجابة واضحة، ولكن الجميع سيفكرون فى شىء واحد حين يسمعون السؤال، وهو «الحريم»! هذا الهوس بالخلافة، الذى يبطن هوسا بالحريم والجوارى واستعادة الفحولة المفقودة لرجال يبحثون عن السلطة والهوية، قد يفسر هذا الهوس العربى برئيس الوزراء التركى أردوغان، وبحريمه اللاتى احتللن القنوات الفضائية العربية فى ظاهرة غير مسبوقة تحتاج إلى تحليل نفسى واجتماعى لهذه الحشود من المشاهدين المدمنين، الهائمين فى أحلام البطولة العسكرية وخيالات الجنس الفردوسية...وقد يتصور المرء أن الاثنين لا يلتقيان، الفتح الذكورى للأعداء، والفتح الذكورى للأنثى، والحقيقة أنهما شىء واحد!! لا تكف المسلسلات التركية عن دغدغة حواس الشرقيين، رجالا ونساء، بخيالات الميلودراما الرومانسية التى يلعب فيها الرجال دور الفرسان المغاوير، وتلعب فيها النساء دور السبايا الجميلات، حتى لو كانت تتخفى فى أقنعة الحياة العصرية وبعض المظاهر والسلوكيات الحديثة، ولعل المسلسل الأكثر جاذبية الآن، وهو «حريم السلطان»، يكشف عن المحتوى الحقيقى لهذه الدراما الرجعية المغلفة بالرومانسية. بطلة المسلسل، إلكسندرا، التى يختطفها التتار الغزاة من أوروبا الشرقية، ليبيعوها ضمن غيرها من السبايا إلى السلطان التركى سليمان الأول ( الذى تولى الخلافة من 1520 – 1566)، هى نموذج نمطى لمثل هذه الرومانسيات الذكورية، هذه الفرس البرى الجامح الذى يحتاج للترويض بواسطة رجل فحل، هو السلطان شخصيا...فرس بمجرد ترويضها وانضمامها إلى بقية القطيع، تعيش خائفة من اللحظة التى ستستولى فيها فرس جديد على قلب الفارس! من بين كل الأنظمة السياسية والاجتماعية الاستعمارية التى عرفها الانسان، سيبقى نظام الحريم هو أغرب هذه الأشكال وأكثرها إثارة للنفور والفتنة. لقد عرف العالم الاسلامى، وما قبله، لآلاف السنين، نظام الرقيق الذى سمح فيه الإنسان لنفسه أن يستعبد غيره من الناس، نساء ورجالا، قبل أن يلغى الرقيق وتجارته منذ أقل من قرن من الزمان... ولكن فى ظل الخلافة العثمانية تحديدا اكتسب نظام الحريم طبيعته ومواصفاته المثلى التى نعرفها اليوم، بحكم قربها التاريخى منا. سقوط الحرملك «عندما سقط آخر السلاطين، السلطان عبد الحميد، خرج من الحرملك 370 امرأة، 127 خصيا، كانوا فى حالة يرثى لها... بعضهم كان مصابا بأمراض عضوية.. شلل.. سل.. تضخم فى الكبد. والبعض الآخر كان مصابا بأمراض نفسية.. هستيرية.. ذهول.. توهان.. وكان هناك من يجمع بين النوعين. وقد فوجئوا بالشمس، فأخفوا عيونهم بأيديهم.. فقد عاشوا طويلا فى الظلام، وخلف الجدران السميكة التى لا تعترف بالضوء». الفقرة من كتاب « تركيا الفستق والأفيون» للكاتب عادل حمودة الذى يرصد خلال رحلة قام بها إلى تركيا عام 1989 قصر حريم السلطان، ذلك المكان المخيف بحجراته الشاسعة وفخامته الغرائبية وبشره الذين يعيشون كالفئران الخائفة...كما لو كان تجسيدا لعالم السلطنة العثمانية كله، بوحشيته ولا إنسانيته والقهر المفروض على عبيده والخوف الذى لا يفارق أسياده. هذا العالم لا تراه فى «حريم السلطان» الذى زور التاريخ والتفاصيل لينسج عالما خياليا أقل ازعاجا وأكثر جاذبية، على عكس ما نجد فى كتابى «الفستق والأفيون» و«ماوراء الحجاب» وغيرهما من حقائق مفزعة. من هذه الحقائق المذابح التى كانت ترتكب بانتظام فى هذا القصر لكل من يخالف الأوامر، أو لمن لا يخالفها. يكفى أن تقرأ ما تكتبه أليف كروتييه عن نظام السلالة الحاكمة الذى كان يقضى بتولى أكبر ذكور العائلة للحكم قبل أن يصدر محمد الفاتح فرمانا يشرع قيام السلطان الحاكم بقتل إخوته، حتى أنه فى عام 1595 قام الخليفة محمد الثالث بقتل إخوته التسعة عشر، وبعضهم أطفال، بتحريض من أمه الجارية التى أصبحت السلطانة الأم، وهى تذكر أيضا كيف كان يتم التخلص من كل حريم السلطان بمجرد وفاته وحلول سلطانة جديدة غالبا ما تكون جارية نجح ولدها فى احتلال العرش، حيث كان يتم إرسال نساء السلطان الراحل وبطانتهن إلى القصر القديم المسمى ب«قصر الدموع»! وحتى عندما أصدر سليم الثانى عام 1666 مرسوما بتخفيف الفرمان السابق بالقتل إلى حبس الإخوة الأمراء فى قصر اسمه «القفص الذهبى» عزلة كاملة مع بعض الجوارى المعقمات منزوعات الرحم أو المبايض، لك أن تتخيل شكل هذه الحياة داخل سجن من الأمراء والجوارى منزوعات الرحم والأغوات منزوعى الذكورة، ولك أن تتخيل حالة هؤلاء عندما تتيح الفرصة لأحدهم أن يصبح سلطانا فى يوم ما. من الصعب حصر أشكال المنافسات والجرائم والخيانات والموت المبكر داخل قفص الحريم، أو حياة العبودية والملل وغيبوبة الأفيون التى تعيش فيها جوارى الحرملك، ويكفى لإفزاعك أن تقرأ الفقرات الخاصة بالأغوات وطريقة اخصائهن من كتاب «الفستق والأفيون»، حيث كان يموت معظمهم من جراء الوحشية التى تتم بها عمليات الأخصاء، أو تقرأ وصفه لحجرة تعذيب من يخطئ منهم! الجوارى أكثر من النساء! «نخطئ فى التقدير إذا قلنا إن عدد الجوارى كان قليلا فى المنازل العربية آنذاك، فإنهن يغلبن كثرة على الحرائر، ويحصين بالمئات فى منازل العظماء والأثرياء وأحيانا بالألوف. وفى زمن الخصب يزيد عددهن على عشر فى منازل العامة. وكن من نفيس المتاع الذى يتهاداه الناس، أو كما يقول الجاحظ – فى كتاب «رسالة القيان» – بمنزلة المشام والتفاح الذى يتناقله القوم بينهم» فى الفقرة السابقة وغيرها من كتاب «الجوارى» تأليف د. جبور عبد النور، سلسلة «اقرأ» العدد 60 نستطيع أن نتبين أن كابوس الجوارى والخصيان والاستعباد لم يكن قصراً ولا حصراً على قصور السلاطين فى القاهرة وبغداد واسطنبول، ولكنه كان منتشراً فى كل مدينة وبيت، ويكفى أن تتصفح بعض الكتب القديمة مثل «الأغانى» للأصفهانى أو «نهاية الأرب» أو «عيون الأخبار» للجاحظ حتى تعرف مدى الانتشار والنفوذ والانفلات الاجتماعى والأسرى الذى كان يتسبب فيه نظام الجوارى، وفى الوقت نفسه تتعرف على الوظائف التى لعبها هذا النظام فى الترفيه والتنفيس عن حالة القمع التى يعانى منها أفراده. الجوارى كن ينتشرن، إذن، بعرض البلاد وطولها، ولم يكن للأمر علاقة بالغرب المنحل ولا الاستعمار الأوروبى، بل الثابت أن تجارة الرقيق ظلت رائجة فى العالم العربى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما وقعت عصبة الأممالمتحدة فى سبتمبر من عام 1926 اتفاقية جنيف بمنع تجارة الرقيق ومحاربتها، ونذكر هنا ما كتبه أحد الرحالة الأوروبيين وهو الرسام ويليام جيمس مولر واصفا زيارته لسوق النخاسة فى القاهرة نحو 1838: «كان سوق العبيد هو المكان المفضل لى...فالمرء يدخل هذا المبنى القائم فى حى من أكثر أحياء القاهرة اتساخا وظلاما من خلال زقاق ضيق، وفى وسط الفناء يعرض العبيد للبيع بعدد يتراوح عموما بين ثلاثين وأربعين، وكلهم تقريبا من صغار السن، بل بعضهم أطفال تماما، طبيعة المشهد منفرة، إلا أننى لم أر الغم والحزن كما كنت أتوقع حين تم اقتيادى لأراقب السيد وهو ينزع عن أنثى كل ما يغطيها – ثوب صوفى سميك- ويعرضها أمام المتفرجين». هؤلاء الجوارى والعبيد كان لهم درجات ومهام وأسعار مختلفة، أفضلهن هن جوارى القصور السلطانية والملكية والجوارى المثقفات اللواتى يجدن القراءة وإلقاء الشعر والغناء، ويليهن الجوارى المغنيات، وأحقرهن جوارى الخمارات اللواتى يعملن كساقيات فى الخمارات التى كانت تنتشر فى أنحاء البلاد رغم الرقابة وعيون الشرطة الدينية، وبين هاته وهؤلاء توجد الجوارى السميرات اللواتى يجدن الغناء والشعر ويعملن كساقيات وربما أيضا مومسات فى بيوت بعض المتسلقين من أبناء الطبقة الوسطى. ورغم التشريعات التى وضعت للتمييز بين الزوجات الحرائر والجوارى وبين أبناء كل منهما، إلا أن التاريخ والوقائع المحددة والمنطق يخبروننا بأنه لم يكن من الممكن السيطرة على تحديد الأنساب والمؤكد أيضا أن معظم الخلفاء والسلاطين والملوك كانوا من أبناء الجوارى غير الشرعيين! هذا العالم المضطرب الحدود بين المحلل والمحرم، وبين الأحرار والعبيد، وبين امتلاك السلطة والخضوع الكامل لمن يملكها، لا يمكن أن يؤدى سوى إلى مجتمع مشوه عاجز يتنازعه الشعور بالعبودية والرغبة فى التسلط والانتقام، لعله يحمل نواة الأمراض التى يعانى منها المجتمع الشرقى حتى الآن!