تتسلق "أم يوسف" تل الرميدة ، حيث يتناثر شجر الزيتون ، ثم تسلك طرقا ملتفة ضيقة وسط حشائش وأشجار، وما تلبث أن تستكمل طريقها الموحش لتجد نفسها أمام حاجز عسكرى وجنود تشهر السلاح فى وجهها ، وبعد ساعات عديدة من الاحتجاز ، تواصل مسلكها تحت وطأة اعتداءات المستوطنين المستمرة ، حتى تصل الى منزلها بمحاذاة مستوطنة إسرائيلية فى قلب مدينة "الخليل" الفلسطينية. "أين الحرية ؟ وحياتنا فى يد مستوطنين معتدين وجنود الجيش الإسرائيلى؟"، هكذا بدأت "أم يوسف العزة" حديثها - مع مراسلة وكالة أنباء الشرق الأوسط برام الله - وملامح الحزن واضحة على وجهها ، مستهجنة الحال الذى آلت اليه مدينة الخليل الفلسطينية وخاصة منطقة "تل الرميدة". فى منطقة "تل الرميدة"، والتى اعتبرت منذ عام 1944 "موقعا أثريا" وأدرجته حكومة الانتداب البريطانى ضمن المواقع التاريخية فى فلسطين ، تضطر "أم يوسف العزة" الى وضع أسلاك شائكة حول منزلها المكون من غرفتين ، بداية من مدخل البيت حتى فوق الأسطح وعند كل نافذة ، تفاديا لأية حجارة أو قاذورات يتم إلقاؤها من قبل اليهود بمستوطنة "رمات يشاي" الملاصقة للمنزل. وبجانب عشرات الاعتداءات اليومية من المستوطنين ، لم تسلم "أم يوسف" - فى الأربعينيات من عمرها وأم لأربعة أبناء - من أذى الجيش الاسرائيلى الذى يمنع المواطنين من الدخول والخروج دون تصريح عند نقاط التفتيش المتواجدة فى المنطقة. تقبع "أم يوسف" وأبناؤها الأربعة ، فى هذا "السجن" منذ اثنى عشر عاما ، فى ظل ظروف معيشية صعبة واعتداءات متواصلة. وتقول بكل حسرة "ماذا يأتى من وراء المستوطنين الا الأذى والضرب والاعتداء علينا ؟ ..للأسف لانشعر بأى حرية، حتى أطفالنا يتم الاعتداء عليهم من المستوطنين بكل الطرق والوسائل". وتسرد "أم يوسف" معاناتها اليومية ، قائلة "نحن نواجه فى هذا الطريق الصعب جنود فى الدخول والخروج عند نقاط التفتيش ، وبخلاف الضرب، يصل بالمستوطن أن يقول للجيش لا تُدخل فلان ، فلا يُدخله ، وإذا وافقوا على إدخالنا والعودة الى منازلنا يأخذون بطاقة الهوية وممكن احتجازنا بالساعات فى نقطة التفتيش وعند الحاجز العسكرى". وتوضح أم يوسف أنه يوجد فى منطقة "تل الرميدة" والتى تقع تحت السيطرة الاسرائيلية بأمر عسكرى ، أكثر من ثلاثة حواجز للجيش الاسرائيلى مع وجود عشرات العائلات اليهودية أى ما يقارب من 50 مستوطنا بأبناءهم ، ما يسبب احتكاكات وصدامات يومية بين أبناء المستوطنين والفلسطينيين ، وتضيف "دائما ما يحدث صدامات بين أبناءنا وأبناء المستوطنين ، مايستدعى تدخل جنود الجيش ، وكنا نشتكى للشرطة الاسرائيلية ونرفع دعوى للمحكمة الاسرائيلية فى "القدس" ضد مستوطن قام يإيذاءنا ، لكن تنتهى المسألة باعتذار بأى حجة ! ..لذلك لم نعد نشتكى للشرطة الاسرائيلية" ، ورغم هذا الكم من الأذى والاعتداء ، تؤكد "أم يوسف" على تمسكها بمنزلها وبأرضها ، وتقول - بكل تحد وإصرار بينما مظاهر الحزن والحسرة تسيطر على وجهها - "هذه أرضنا... كيف لنا أن نتركها لأعداءنا ؟ وما يمكن أن يصير فيها ؟ ، هم يرغبون الاستيلاء عليها والعيش فيها ..واذا أخلينا بيوتنا يعنى أننا نعطيها للمستوطنين... لا، هذه أرضنا ونحن من سنظل فى هذه الأرض". ها هى "أم يوسف" لن تتنازل عن أرضها بالرغم من كل ما تلاقيه من تعب ، وتجتمع معانى الصبر والرضا فى منزلها ، فهى تعيش فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة ، حيث يعانى زوجها من عجز فى يده اليسرى ، ويعيش منذ خمسة شهور بدون عمل ، حيث كان يعمل فى محل ملابس ، وعند حدوث أى مشكلة مع المستوطنين ، كان يترك عمله ويأتى فورا للإطمئنان على أولاده ، لذلك كان يترك العمل باستمرار ، الأمر الذى أدى الى فصله من العمل بحجة تقليص عدد الموظفين فى ظل حالة الركود التى تضرب الأسواق الفلسطينية. ومثلما تعانى عائلة "أبو يوسف العزة" يعانى المنزل الذى يأويها ، فقد ظهرت تشققات وصدع فى جدران المنزل ، ولاتستطيع أفراد الأسرة إصلاح شىء فى ظل معاناتهم الاقتصادية ، وتقول أم يوسف " ليس بيدنا حيلة ، لكنى أعتمد دائما على تجمع "شباب ضد الاستيطان" فى صيانة وترميم كل شىء هنا ، حتى رصف الطرق المؤدية للمنزل ، فهم معنا فى كل وقت" وتضيف " المنطقة تتحدث بنفسها عن الاوضاع التى نعيشها لكن هؤلاء الشباب معنا وبإرادة الله وعزيمتهم ، نحن هنا ونتحدى المستوطنين فوق تل الرميدة". منطقة "تل الرميدة" – قلب مدينة الخليل والتى تعتبر ثانى أقدم منطقة سكنية فى العالم بعد مدينة "أريحا" – تتميز بموقع استراتيجى ، حيث تطل على البلدة القديمة والحرم الابراهيمى ، بالاضافة الى كونها موقع أثرى ، حيث أن الحفريات بموقع "تل الرميدة" - حسبما أفادت مصادر بلجنة إعمار البلدة القديمة فى مدينة الخليل - دلت على وجود آثار يعود تاريخها إلى العصر البرونزى والعصر الحديدى ثم العصر الرومانى والهيرودى والبيزنطى ، كما أن الكنعانيين أقاموا عاصمتهم السياسية فيها منذ ما يزيد عن 5500 سنة. ولكن اليوم ، أصبحت مدينة "الخليل" ، وسميت كذلك نسبة إلى خليل الرحمن ( إبراهيم عليه السلام) ، مستباحة من مستوطنين يهود عاثوا فيها فسادا بحماية جنود الجيش الاسرائيلى ، ولا تزال 280 عائلة فلسطينية فقط تعيش فوق تل الرميدة وفى "شارع الشهداء" الذى يعد شريانا رئيسيا للحياة العامة والحيوية فى قلب المدينة ، وقد سارع الكيان الاسرائيلى - بعد مجزرة الحرم الإبراهيمى فى 25 فبراير 1994- إلى إغلاقه فى وجه الفلسطينيين بشكل نهائى وشل الحركة البشرية بالمكان. ويتعمد الاحتلال توسيع استيطانه فى قلب مدينة "الخليل" والتى أصبحت - بعد "بروتوكول الخليل" عام 1997 الذى نص على تقسيم المدينة إلى قسمين ، قسم تحت السيطرة الاسرائيلية وآخر تحت السيادة الفلسطينية - عرضة لشتى صور الانتهاكات الاسرائيلية ، وأحدثها الزحف الاستيطانى الممتد كالخلايا السرطانية المتفشية فى الجسد الفلسطينى ، وهو الأمر الذى دفع شباب المنطقة الى التوحد للتصدى لكل هذه الانتهاكات. ويهدف تجمع "شباب ضد الاستيطان" فى الخليل - وهو تجمع شبابى وطنى غير حزبي – الى مساعدة وحماية أهالى منطقة "تل الرميدة" فى مواجهة المستوطنين والجنود الاسرائيليين ويسعى لإنهاء الاستيطان الاسرائيلى فى فلسطين من خلال وسائل العمل الجماهيرى غير المسلح. ويسلط عيسى عمرو منسق عام تجمع "شباب ضد الاستيطان" فى الخليل الضوء على طبيعة المكان المختلفة عن باقى المناطق الفلسطينية ، قائلا "إذا أردت أن تعرف ما هو الاحتلال وما هو الاستيطان ، فجولة لمدة ثلاث ساعات فقط فى الخليل تكفى ، فالاستيطان فى هذه البقعة يختلف عن بقية الاراضى الفلسطينية" ، ويوضح " يمكنك أن ترى شوارع مغلقة ، عدد كبير من الحواجز والجنود الاسرائيلية ينتشرون فى كل مكان وفوق أسطح البيوت مع استمرار انتهاكات حقوق الانسان بشكل يومى من قبل المستوطنين" ، خاصة مع زرع خمس بؤر استيطانية (وهى "بيت هداسا" و"ابراهام ابينو" و"بيت رومانو"، و"رمات يشاي" وبؤرة "الاستراحة" عند الحرم الابراهيمى) وسط البنايات الفلسطينية. ويضيف عيسى عمرو "خلال العشر سنوات الماضية جاء الى الخليل 200 مليون دولار لتقوية الاستيطان فى قلب الخليل وأخذ اليهود منطقة جديدة أثرية بمساحة 5 دونم لإنشاء حى له علاقة بالاثار بتكلفة 6 ملايين شيكل وهذا يدل أن هناك اهتماما كبيرا بهذه المنطقة" ، وفى المقابل ، إضطر عدد كبير من العائلات الفلسطينية الى ترك منازلها ، وتقريبا ألف بيت يشكلون 43% من مساكن الخليل التاريخية أصبحت فارغة ، فالاسرائيليون يجبروننا على ترك منازلنا وعلى ترك تاريخنا". ويؤكد بكل إصرار "نحن "شباب ضد الاستيطان" نحاول أن نقف أمام هذا الوضع ونحمى أهالى المنطقة من خلال سبل عديدة ، منها تنظيم مقاومة شعبية ومظاهرات من وقت الى آخر ، لكن الجديد أن نوثق الأحداث التى تجرى بشكل كامل ، بهدف الحماية من الاعتقال أو الاحتجاز لدى الشرطة الاسرائيلية ، فحين يعتدى علينا من المستوطنين ، كان لابد من تسجيل أى اعتداء حتى لا يتم الزج بنا فى السجون" ، بالاضافة الى توثيق كل مايحدث وإرساله للصحافة المحلية والاجنبية والى منظمات حقوق الانسان ، فنحن نعطى للعائلات شعورا بالحماية... ولا نملك شىء للرد على الاعتداءات سوى أننا نصور ونوثق هذا الاعتداء وهو نوع من أنواع المقاومة ". كما يقوم تجمع "شباب ضد الاستيطان" بتنظيم دورات للاطفال وللنساء المتواجدة فى "تل الرميدة" على القيادة وتعليم اللغة العبرية والانجليزية ، وعرض أفلام لمتضامنين الاجانب يأتون لزيارة المنطقة بشكل دورى وذلك فى "بيت الصمود والتحدى" ، الذى كان معسكرا للجيش الاسرائيلى من عام 2000 الى عام 2006 ، وكعادة الجيش فى محافظة الخليل وفى محافظات الضفة الغربية أن يسيطر على منطقة لاقامة معسكر وبعد فترة يتركه للمستوطنين ، ومن هنا جاءت فكرة الاستيطان فى قلب المدينة ، مثل مستوطنة "كريات أربع" الكبرى. وعندما دخل المستوطنون أحد المنازل ، افتعل الشباب مشكلة معهم وذهبوا الى المحكمة الاسرئيلية وبعد ثلاثة شهور استطاع الشباب أخذ هذا المنزل من المستوطنين واطلقوا عليه " بيت الصمود والتحدى " ، ومنذ عام 2007 ونحن متواجدون هنا فى هذا البيت ، المزود بشباك على النوافذ وكاميرات وأبواب حديدية خشية من أى هجوم عليه من المستوطنين ، وهو البيت الوحيد المعلق به علم فلسطين داخل المنطقة التى تقع تحت السيطرة الاسرائيلية والتى لا تستطيع أن تتنفس فيها الا بإذن ، وهذا المنزل بالنسبة لشباب "تل الرميدة" مثال للمقاومة التى تنتصر، فالطريق المؤدى الى تل الرميدة كان مغلقا ولكننا استطعنا أن نفتحه وانتصرنا بصمودنا هنا فى المنطقة وصبرنا حتى الان بالرغم من الاعتداءات والتهديدات والتجاوزات التى حدثت هنا من المستوطنين . ويرى عمرو أن الوضع الذى آلت اليه مدينة الخليل لم يعد مجرد احتلال اسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية ، بل أصبح يسمى "ترحيل المواطنين الأصليين واستبدالهم بالمستوطنين" أى عملية تطهير عرقى ، ويقول " نحن نفتقد الامداد العربى ودعمه السياسى فى جميع المحافل الدولية ، وللاسف الشديد أصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة للقادة العرب قضية للمساومة ولتحقيق بعض الانجازات" ، ومع ذلك ، يعرب عمرو عن تفاؤله بوجود " نهضة فى الفكر الفلسطينى تجاه المقاومة" ، قائلا "اليوم ، نحن ندعو الى انطلاق "انتفاضة ذكية" مدروسة ولها أهداف محددة ومؤثرة ، نحن الان نعمل على إعداد استراتيجية جديدة للمقاومة الشعبية وننطلق من شىء اسمه الواجب". عيسى عمرو ، أحد أبناء الشعب الفلسطينى الذى ربط حاضره ومستقبله بأرضه ، لايكل ولايمل فى سعيه لتحرير وطنه ، مؤكدا بكل فخر واعتزاز "أنا كمواطن فلسطينى، أريد أن اقاوم وأريد أن اختار اسلوب المقاومة المؤثر والمجدى والأقل ضررا...نحن هنا سعداء بما نفعله على الرغم من كل الصعوبات التى نواجهها ، وأصبحنا مؤثرين فعندما تأتى وحدة اسرائيلية جديدة هنا ، أصبحت تتحدث عنا وعما نفعله فى أرضنا فلسطين".