قبل أيام، انتبهت لجنة الزراعة والرى فى مجلس الشعب إلى أنها معنية بقضايا لا تقل أهمية عن البالونات السياسية التى تنتفخ وتنفجر فى وجوهنا يوماً بعد آخر، وتغرقنا فى دوامة جدل لا ينتهى حول حق المجلس فى محاسبة نوابه، أو حق المجلسين المنتخبين فى اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، أو قدرة المجلس على التدخل لتعديل المادة 28 من الإعلان الدستورى. لا أقول إن هذا الجدل السياسى غير مهم، ولا أهوِّن من خطورة انفراد التيارات السياسية الفائزة فى انتخابات عابرة بوضع دستور يحكم الأمة لعدة عقود مقبلة، ولا أقلل من كارثة المادة 28 من الإعلان الدستورى التى تحصِّن قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية ضد أى طعون.. لكننى أشير فقط إلى أن استغراق نواب الأمة فى السجال أو التطاحن السياسى وانصرافهم بالكامل عن الهموم الاقتصادية والاجتماعية سيؤدى حتماً إلى انهيار اقتصادى شامل، لم يعد خافياً على أحد أن هناك من يدفع إليه، ومن ينفق أموالاً طائلة لتحقيقه، لأن الخراب هو المناخ الملائم للإجهاز النهائى على الثورة ومطالبها، وهو الوضع المناسب تماماً لسلق دستور يعيد إنتاج النظام السياسى القمعى والفاسد الذى حكمنا لأكثر من ثلاثين عاماً. واللافت فى انتباه لجنة الزراعة والرى - الذى جاء متأخراً - لأهم وأخطر قضايانا الاقتصادية والمعيشية، أنه كشف عن تواضع شديد فى خبرة أعضاء هذه اللجنة، وعن استسهال أشد فى طرح هموم الزراعة ومشاكلها المتفاقمة، وهو ما ظهر جلياً فى اعتماد الأعضاء على ما تنشره الصحف وما يكتبه الهواة عن هذا القطاع الخطير الذى يمثل عصب الحياة فى مصر، فإذا بإسهامات النواب فى النقاش حول الزراعة تدور حول محصول القطن الذى تراكم فى بيوت المزارعين بعد أن عجزت الدولة عن شرائه. والحقيقة أننى انتهيت من مطالعة ما نشرته كل المواقع والصحف عن حكاية القطن المصرى العظيم - أو الذهب الأبيض - إلى حالة من اليأس المطبق فى صلاحية هذا المجلس المنتخب للخروج بالبلاد من أزماتها الاقتصادية والإنتاجية المفجعة. والسبب أن أى قارئ مبتدئ للتاريخ، أو أى مواطن لديه خبرة عملية عن الزراعة وأحوالها، يعرف جيداً أن النهوض بهذا القطاع يبدأ من نسف المنظومة الاستعمارية لهيكل الزراعة المصرية، فقد ظل القطن - والقطن تحديداً - منذ عصر محمد على باشا وإلى يومنا هذا، محصولاً استعمارياً بامتياز، يستهلك الأرض والمياه وعرق الفلاحين المصريين وأطفالهم لإنتاج أقطان طويلة التيلة، تشتريها الحكومات المتعاقبة والتجار بثمن بخس وتصدّرها إلى الدول الصناعية الكبرى لكى تقوم بغزلها ونسجها وتصنيعها وإعادة تصديرها إلى كل أسواق العالم، ولم يحدث فى أى حقبة سياسية - حتى فى المرحلة الناصرية - أن استفاد الفلاح المصرى من شقاء عمره فى زراعة القطن. ولكى يفهم الإخوة الهواة فى الصحف، والإخوة الهواة فى مجلس الشعب ما أقصده، أطالبهم جميعاً بالاطلاع على تجربة الهند مع القطن، فهى الآن أكبر منتج للقطن فى العالم، وأكبر مستورد للقطن فى العالم، كما أنها لا تصدر قنطاراً واحداً من القطن الخام مثلما نفعل نحن، لأن لديها حكاماً وساسة ونخبة يعرفون شيئاً اسمه «القيمة المضافة»، ويعرفون أن كل طن قطن خام يتم غزله ونسجه وتصنيعه يوفر العديد من فرص العمل لمواطنيهم، وأن تحويل القطن إلى ملابس يضيف للاقتصاد الوطنى عشرات أضعاف ما يحققه إنتاج القطن الخام وتصديره إلى مراكز الصناعة المتقدمة حول العالم. القطن فى الهند ذهب أبيض للمواطن الهندى وللدولة الهندية، وهو فى مصر ذهب أبيض لحكومات الجباية وللتجار السفلة، لكنه لم يكن أبداً للفلاح المصرى غير سخرة بغيضة، بدأها محمد على باشا وأوغل فيها الاستعمار الأجنبى وأورثها للاستعمار المحلى.. وعلينا من الآن أن نمتلك قدراً من الخيال للنهوض بأعظم قطاعات الاقتصاد الوطنى، وأن نتخلص من «المقررات» الاستعمارية فى الزراعة والتصنيع الزراعى، وأن نعود إلى الواقع لنكتسب وعياً جديداً يرحمنا من تفاهة تصورات الهواة فى الصحف والمجالس النيابية عن الاقتصاد وهمومه. نقلاً عن المصرى اليوم