تبدو إشكالية الدور، الذي يمكن أن يلعبه المثقفون والمفكرون في دعم وتمكين الديمقراطية في بلادنا، غير متعلقة بطبيعة الخطاب الذي يوجهونه إلى الجماهير حول الديمقراطية، قدر تعلقها بعلاقة هؤلاء المثقفين أنفسهم بالديمقراطية كفكرة وممارسة. الديمقراطية في أبسط صورها، وأنقاها أيضًا، ليست احتشادًا واحتشادًا عنيفًا مضادًّا لرص أصوات في صناديق بأي ثمن وأية وسيلة، إنما هي حياة حرة مبنية على تقبّل المختلف واحترامه، والتعايش مع الآخر بسماحة فوق أرض الوطن المشترك، وتحت مظلة القانون. قبل أن نبحث عن دور النخبويين في دعم وتمكين هذه المفاهيم، لنا أن نتساءل: أين هم من هذه المفاهيم أصلاً؟ إن قليلين جدًّا للأسف الشديد هم من أفلتوا من أمراض الاستعلاء والدوجماتية والوصاية والغرور وإقصاء الآخر وتخوينه، ومن ثم يصير حديثهم المسهب عن الديمقراطية وأدواتها بمثابة دُعابة سخيفة، إذ لا تكاد أرض الواقع تشهد غير مزايداتهم الأنوية، وممارساتهم الاستبدادية الفاشية الضيّقة. هي مسلّمة بسيطة (فاقد الشيء لا يعطيه)، لكنها غائبة عمن يستسهلون طريق النجاح، إذ يرونه مرادفًا لهدم أبنية من يخالفونهم، وتسفيهها، بدلاً من اقتراح بناء سليم يخصهم، قادر على الاجتذاب والإقناع. وهكذا، ينوب الصخب عن الكلام في حوار الطرشان، ويخبو صوت العقل خلف مفرقعات الآلة الإعلامية المهيأة لفعل الإثارة، وفرض التهييج والتأليب كمناخ عام. إن الانطلاقة المأمولة للدور الذي يلعبه المثقفون مرهونة في المقام الأول بممارسات المثقفين أنفسهم. ثم في مرحلة لاحقة، هي مرهونة بآليات ذلك الخطاب الذي يوجهه النخبويون إلى الشعوب، مع ملاحظة أن هذا الخطاب تفاعلي وليس أحاديًّا، وأن السلوك المعلن بحد ذاته هو نوع من أنواع الخطاب، بل هو الخطاب الأصدق، والأكثر تأثيرًا، والأقدر على الإقناع. ولكي تكون ديمقراطية المثقف، ودعوته إلى الديمقراطية، ذات قدر مقبول من المصداقية والفاعلية، عليه بالضرورة أن يكون مثقفًا مستقلاً، فالمثقف التابع لسلطة، السياسة أو المال مثلاً أو أية سلطة، هو مغرض دائمًا، ومشروط، ومقيّد، وغير صالح لحكم نفسه بنفسه (المفهوم الأولي للديمقراطية الشعبية). الجدية أيضًا على المحك، والعمق، والهوية الوطنية، والاندماج الحيوي الطبيعي بقطاعات الشعب، فالثقافة إذا صارت ترفًا فكريًّا أو ثرثرة صالونات أو فقاعات في فراغ، فلا أمل فيها، ولا في منتجها. والقيمة الاجتماعية أو الأخلاقية أو الإنسانية عمومًا المرجوة من الخطاب الثقافي أو الإبداعي الأصيل لا تتعارض بطبيعة الحال مع خصوصية ذلك الخطاب، وطابعه الفني الابتكاري الجمالي في المقام الأول، وهنا الفرق بين المثقف الطليعي، والمثقف الروتيني (الموظف). هذه النزعة الابتكارية لدى المثقف الحر الجاد المندمج، هي المنوطة برسم ملامح ذلك الدور الإنقاذي للنخبة في أوقات الشدائد والأزمات والمراحل الانتقالية، حيث تحلق الأفكار الجديدة والوعي المعرفي والحس النقدي في السماء، من أجل إعادة البناء، وانتقاء المناسب، ربما على غير منوال واضح يقاس عليه، وهنا غاية التخييل والقدرة على قراءة الحاضر، واستشفاف ما سيكون.