دائما ما تكون النزاعات الأهلية القديمة سببا كافيا لتجدد الصراع وتغيير الثوابت المفروضة بالقوة، لكن الأمر لا ينطبق على كاليدونيا الجديدة، المستعمرة الفرنسية القديمة والتي رفضت مرارا الاستقلال عن فرنسا. للمرة الثانية خلال عامين تقريبا، صوت الناخبون في كاليدونيا الجديدة وهي مجموعة من الجزر في المحيط الهادئ على بعد نحو 18 كلم من باريس، لصالح البقاء كجزء من فرنسا، في خطوة رحب بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وقف الناخبون أمام لجان الاقتراع منقسمين بين الانفصال عن فرنسا أو البقاء ضمنها، ليصوت في النهاية 53,26% لصالح البقاء، وفي استفتاء آخر جرى عام 2018 صوت 56.4% لنفس النتيجة، لكن ماذا نعرف عن كاليدونيا الجديدة؟ في 1774، اكتشف البحار الإنجليزى جيمس كوك الأرخبيل الواقعة في المحيط الهادئ، ليطلق عليها اسم "كاليدونيا الجديدة" نظرا لأنها تذكره باسكتلندا. وبحلول 1853، احتل الأميرال فيفرييه ديبوانت الجزيرة بأمر من نابليون الثالث امبراطور فرنسا آنذاك، وأصبحت عاصمتها نوميا. ثم تدفق إليها المستوطنين الأوروبيين. استغلت فرنسا الموارد الموجودة في الأرخبيل واستقدمت العمال من جزر مجاورة للعمل في المناجم في هذا الإقليم الذي يحتوي على ربع موارد عنصر النيكل المعروفة في العالم، وأقصي سكان المنطقة الأصليون عن المميزات الفرنسية. لم يعجب الأمر شعب الكاناك، وهم السكان الأصليون الميلانيزيون لكاليدونيا الجديدة فاندلعت في 1878 انتفاضة عنيفة بقيادة الزعيم أتال الذي نجح في توحيد القبائل ليدخل في حربا مع الفرنسيين خلفت مئات القتلى من الطرفين. وبحسب التقارير، كانت كاليدونيا منذ 1864 حتى 1924، بمثابة "مستعمرة للمنفيين" حيث أصبحت مستعمرة عقابية نفي إليها آلاف السجناء السياسيين والثوار الفرنسيين على مر سنوات. وخلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر تم نفي مجموعة كبيرة من الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة لمشاركتهم في المقاومة ضد الاستعمار. من بعدها، أصبحت كاليدونيا الجديدة ضمن الأقاليم الفرنسية الواقعة وراء البحار، ثم حصل المواطنين بمختلف أعراقهم على المواطنة، لكن مع تزايد السكان الأوروبيين والمجموعات الإثنية المختلفة أصبح الميلانيزيون أقلية في بلادهم. ومع ازدهار صناعة استخراج النيكل في الإقليم، حدث تذمرا واضطرابات خطيرة بسبب النظام السياسي خلال فترة الثمانينيات وطالب السكان بالاستقلال عن فرنسا. وبلغت ذروة الأحداث في 1988، عندما وقعت مذبحة "أوفييا"عندما هاجم مجموعة من المطالبين باستقلال الأرخبيل القوات الفرنسية الموجودة في المكان ما أسفر عن مقتل 4 واحتجاز 27 آخرين كرهينة في إحدى المغارات. لم يتوقف الجيش الفرنسي مكتوف الأيدي، فهاجمت القوات المغارة بهدف تحرير الرهائن، ما أسفر عن مقتل 19 من الانفصاليين و2 من الرهائن، ثم اندلعت اشتباكات متتالية راح ضحيتها عشرات القتل. واستمر التوتر لفترة لكنه انتهي بعد توقيع اتفاقية "ماتينيون" بين السكان الأصليون المطالبون بالاستقلال "الكاناك" والسكان الأوروبيين المؤيدين لفرنسا "كالدوش" لتحقيق التوازن الاجتماعي بين العرقين. وفي 1998، وضع اتفاق نوميا أساسا لمرحلة انتقالية طويلة تمهد انتقال السلطات لحكومة محلية وإزالة الاستعمار من خلال تنظيم استفتاء حول تقرير المصير. ويتألف سكان كاليدونيا الجديدة البالغ عددهم حوالي 270 ألف نسمة، من حوالي 40% من الكاناك، و27% من الأوروبيين، ودائما ما عانى "الكاناك" من التهميش وعدم حصولهم على شهادات دراسية أو فرص عمل وغيرها من المميزات. ورغم ذلك، اختارت كاليدونيا الجديدة البقاء في فرنسا مرتين، فبعد استفتاء 2018، قرر الأرخبيل عدم الانفصال عن الأرضي الفرنسية، إلا أن الباب لم يغلق بعد، حيث يمكن أن يجرى استفتاء آخر بحلول 2022 إذا تقدم ثلث الهيئة التشريعية للإقليم بطلب لتنظيم استفتاء جديد.