لعل "الروح المبدعة للإنسان العربي" تتجلى الآن في تلك الحالة من الزخم الفني والأفكار المبتكرة لجيل شاب من الفنانين في مصر والعالم العربي ككل فيما تتوهج ابداعات فنانين من الرواد مثل الفنان التشكيلي المصري الكبير حلمي التوني. واذا كان معرض "وش قهوة" الذي احتضنه "اتيليه القاهرة" مؤخرا قد لفت الأنظار للفنانة التشكيلية المصرية الشابة سارة مدحت التي عرضت نحو 40 لوحة مرسومة بالقهوة تعبرعن أطياف وتنويعات الحياة اليومية وبيوت قاهرية قديمة فان الفنان الأردني احمد القرعان يثير اهتماما وتفاؤلا بالأفكار المبتكرة للمبدعين العرب في كل مكان. والمصرية سارة مدحت التي لفتت أنظار صحف ووسائل اعلام شاركت من قبل "بلوحاتها لفن القهوة" في معرضين دوليين بالنمسا وبلجيكا فضلا عن معارض جماعية في مصر قبل ان تقيم مؤخرا اول معرض فردي لهذا الفن في القاهرة، بينما الأردني احمد القرعان كان قد وقع منذ نحو عامين في "هوى الرسم بالقهوة" ليلفت بدوره انظار صحف ووسائل اعلام بعضها في الغرب. فهذا الفنان الأردني الذي كان قبل ذلك يعشق الرسم وفن الخط العربي بدأت قصته بدوره مع الرسم بالقهوة بمحض مصادفة شأنه شأن المصرية سارة مدحت عندما كان يحتسي فنجان قهوته الصباحي في مكتبه عام 2017 لتتحول "فناجين قهوته الى لوحات" في قصة تتشابه كثيرا في "عامل الصدفة الذي حدا بالفنانة المصرية سارة مدحت". ومع تميزه في "بورتريه فن القهوة ونجاحه في استخلاص درجات متعددة من مداد القهوة" رسم القرعان عدة شخصيات شهيرة باستخدام القهوة ومن بينها "كوكب الشرق" ام كلثوم-الحاضرة في ابداعات المصرية سارة مدحت-والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش والناشطة الفلسطينية عهد التميمي فيما تبدو اعماله لافتة بتفاصيلها على مساحات صغيرة للغاية واحيانا يستخدم الصحون والأقراط والقلادات للرسم عليها بالقهوة بينما تستخدم المصرية سارة مدحت في رسوماتها بالقهوة الخيش الى جانب القماش والورق. ولم ينس الأردني احمد القرعان غرامه الأول بالخط العربي ، فبات يغمس اقلاما خشبية في القهوة ليبدع بها لوحات في الخط العربي الذي درسه على يد العراقي الراحل خليل الزهاوي فيما حق له وهو الذي حول "القهوة الى فن" ان يردد دوما مقولة للشاعر محمود درويش حول القهوة باعتبارها "مرآة اليد وقراءة لكتاب النفس". وتوضح الفنانة سارة مدحت التي تخرجت في كلية الفنون التطبيقية في جامعة حلوان عام 2008 أن العوامل الجوية كالرطوبة لا تنال من جودة وتفاصيل اللوحات المرسومة بالقهوة لأنها مصقولة بمادة مثبتة فيما يبدو حديثها عن القهوة بحبيباتها ورائحتها المنعشة ومذاقاتها اقرب للغزل فيما تشترك مع الفنان الأردني احمد القرعان في التأكيد على العلاقة الوثيقة بين الفن التشكيلي والموسيقى. وإن كان "معرض وش قهوة القاهري" اول معرض من نوعه في مصر لفن الرسم بالقهوة فالأمل ان يقام اكثر من معرض لهذا الفن الجديد لمبدعين عرب من أصحاب النزعات التجريبية الابتكارية كالمصرية سارة مدحت الأردني احمد القرعان فيما يمكن بسهولة ان هذين الفنانين العربيين يشتركان معا في "التوظيف الفني الإبداعي للبن بكل تدرجاته وكأن فنجان القهوة قد تحول الى باليتة الوان". وقد لا تكون هذه الحالة الإبداعية المصرية وكذلك الحالة الإبداعية الأردنية منبتة الصلة بحالة مبدع عربي اخر في الجزائر الشقيقة وهو الفنان شمس الدين بلعربي الذي يعرف "بشمسو بلعربي" الذي يعبر بامتياز عن اصالة الابداع وقد عرف في الغرب الأوروبي والأمريكي بلوحاته وصوره للمشاهير وكبار النجوم مثل بطل الملاكمة العالمي الراحل محمد علي كلاي والممثل البلجيكي الأصل والنجم الهوليوودي جان كلود فان دام ورائد الفضاء الكندي جيرمي هانسن. وإذا كانت المصرية سارة مدحت تعتز بلوحات رسمتها بالقهوة لفنانين وفنانات من نجوم الفن في مصر والعالم العربي مثل عبد الحليم حافظ واحمد رمزي ورشدي اباظة وحسين رياض وتحية كاريوكا وماري منيب وشادية وهند رستم وشويكار ونجلاء فتحي ، فالجزائري شمس الدين بلعربي برع بدوره في رسم نجوم الفن في الغرب لتكون السينما بنجومها في الشرق والغرب ملهمة لهذين الفنانين في مصر والجزائر. وبلعربي الذي ولد في الرابع عشر من فبراير عام 1987 ببلدية "عين تادلس" في ولاية مستغانم غرب الجزائر كان قد أقام "محترفه الفني في غابة قريبة من بيت عائلته" ويصف حياته في هذا المحترف بأنها حياة فنية بغلالة صوفية" بينما لايخفي اعتزازه برسائل من مشاهير ونجوم في الغرب تصل لهذا المحترف او "الورشة الفنية في غابة جزائرية". ويقول شمس الدين بلعربي لوكالة انباء الشرق الأوسط انه منذ الطفولة وهو يرسم في كل وقت وعندما كان يعود من المدرسة للبيت يلتقط أي جرائد من الطريق ليرسم مافيها من صور وهو ما كان يفعله أيضا مع افيشات الأفلام السينمائية ولقطات يراها على الشاشة الكبيرة. وإن عملت المصرية سارة مدحت لعدة سنوات في مجال الدعاية والاعلان ، فالجزائري شمس الدين بلعربي الذي يقول انه ينتمي أصلا لعائلة فقيرة ماديا ، ومن ثم فقد سعى منذ سنوات الصبا لكسب الرزق بالانخراط في أنشطة الديكور ، ويتذكر مبتسما انه اذا كان البعض لم يمنحه حينئذ حقوقه المالية فان الكثيرين مدوا له يد المساعدة والتشجيع فيما بادر بطموح مبكر بارسال رسوماته لشركات انتاج سينمائي في هوليوود. ولعل صمود هذا الفنان الجزائري في مواجهة شدائد الحياة تعيد للأذهان قصة الفنان الراحل عبد البديع عبد الحي الذي قضى منذ نحو عقد ونصف العقد وكان هذا النحات العظيم يحول احباطاته وهمومه الحياتية كمواطن مصري بسيط وكادح الى طاقة ابداع تتجلى في أعماله النحتية فيما يعد مثالا لمعنى "الفنان الفطري والانسان المصري المبدع. فقد تكون لحظة الألم هي الشرارة المحفزة لإعلان المبدع عن نفسه وتأكيد موهبته كما حدث مع الفنان الفطري المصري الراحل عبد البديع عبد الحي عندما عامله استاذ في كلية الفنون الجميلة بازدراء وتعامل معه بما لا يليق مصرا على انه "مجرد عامل في الكلية وليس بفنان". وجاء رفض هذا الفنان الكبير لتلك الاهانة ورده عليها عمليا عبر مجموعة أعمال فنية من النحت البارز والغائر اطلق عليها "الشكاوى" وكأنها "شكاوى الفلاح المصري القديم " فيما قدر لعبد البديع عبد الحي بعد ذلك ان ينطلق في ابداع اعماله المنفذة في الخامات شديدة الصلابة من احجار الجرانيت والبازلت والديوريت. ولئن راوحت حياة شيخ النحاتين عبد البديع عبد الحي الذي قضى عن عمر يناهز ال88 عاما بين الفن المبدع والمرض الأليم فان الصفة الرئيسية في شخصيته كانت الصمود ومواجهة الشدائد ورفض تقديم اي تنازلات وحرصه على الجدارة والتفرد كفنان مصري اصيل وتفريغ شحنات غضبه في اعمال ابداعية تبقى شاهدة على علو القامة وشموخ الفنان عاشق الحجر الصلب. ومن هنا ، قال الناقد والمؤرخ الفني الراحل الدكتور صبحي الشاروني أن أعظم ما يميز أعمال عبد البديع عبد الحي هو احترامه للخامة التي ينحت فيها تمثاله وعمق احساسه بها حتى يشعر المشاهد بمدى تفاعله معها وحبه لها بما يشبه العشق فيما حق وصف يد هذا الفنان الذي بدأ حياته "طباخا" بأنها "اليد التي انطقت الحجر". أما الفنان التشكيلي المصري حسن سليمان الذي ولد عام 1928 وقضى عام 2008 ، فقال في كتابه "حرية الفنان" :"على الرغم من ان حياتي الفنية مملوءة بالصراعات والتغيرات وفرضت علي معارك حتمية حددت مسار حياتي فان الفن هو الملاذ الوحيد وكان صمودي هذا نتيجة تربية اعتمدت كثيرا على الثقافة" فيما يتابع هذا الفنان العظيم القول في كتابه :"نأيت بنفسي عن كل مايستهلكني او يضعني في صراع لاطائل منه وعلى الرغم من هذا فأنا الوم نفسي كثيرا اذ كان يجب ان اركز اكثر في عملي". وها هو حسن سليمان يهمس لذاته قبل الآخرين عندما يقول :"لم اشعر بالغيرة قط من انسان اغتنى او حتى صنع صورة جيدة.لا أغير.لا أحقد.لا أتنافس على شيء من متاع الدنيا..مثل هذه الأشياء ان اخذت بتلابيب الفنان فستعوقه ان يواجه السطح الأبيض الذي امامه بكل حرية وبكل تركيز ولم يشغلني قط مايفعله الآخرون". وكلمات رائد في الفن التشكيلي كحسن سليمان تنطوي على دروس لأجيال تالية من الفنانين العرب كالفنان الجزائري شمس الدين بلعربي الذي تلقى ثناء من متنفذين في شركات أمريكية للإنتاج السينمائي مثل الهولندي سالار زرزا وحظى بدعم المنتج والفنان المغربي الأصل محمد القيسي فيما يمكن ملاحظة انه استفاد من مواقع التواصل الاجتماعي في عرض ابداعاته شأنه في ذلك شأن المصرية سارة مدحت والأردني احمد القرعان. وكل ذلك يثير حالة من التفاؤل حيال مستقبل الفن التشكيلي العربي وغيره من الفنون ويؤشر لاستجابات إبداعية عربية على مستوى التحديات الراهنة التي تواجه الانسان العربي فيما تشهد بيروت حاليا معرضا فنيا دوليا بعنوان :"في الترانزيت" ويضم 300 لوحة لفنانين عرب وأجانب حول هموم اللاجئين والنازحين ليعبر هذا المعرض الذي افتتح امس الأول "الاثنين" ويستمر حتى الرابع والعشرين من شهر مارس الجاري عن رؤى إبداعية بشأن قضية تؤرق الضمير العالمي بعد ان تفاقمت في العقد الأخير. وفي الدورة الرابعة" لجائزة محمود كحيل" وهو الفنان اللبناني الراحل الذي ابدع في فن الكاريكاتير كان الفنان التشكيلي المصري الكبير حلمي التوني قد توج أمس "الثلاثاء" في احتفالية بالجامعة الأمريكية في بيروت بجائزة التكريم التي تحمل اسم "قاعة المشاهير لانجازات العمر الفخرية". ويتزامن هذا التكريم بجائزة فخرية مرموقة في بيروت مع معرض في القاهرة للفنان حلمي التوني بعنوان :"للنساء وجوه" ويستمر حتى الحادي والعشرين من شهر مارس الجاري في "جاليري بيكاسو بالزمالك" ويضم 60 لوحة لوجوه النساء كما يراها هذا الفنان المصري الذي ولد في الثلاثين من ابريل عام 1964 وتعددت انشطته الإبداعية مابين الفن التشكيلي ورسوم الكاريكاتير والجرافيك وتصميم الكتب والإخراج الفني للمجلات. وفي مقابلة صحفية، قال حلمي التوني إنه يحب اللغة العربية ويختار عناوين معارضه بحرص "واي معرض بالنسبة له مثل رواية او قصيدة له عنوان وله موضوع" معتبرا ان "الفن ابتكار واتقان والفنان دائما امام تحد بألا يكرر نفسه". وفيما يقول حلمي التوني انه يحرص في اعماله الفنية "على مخاطبة ذكريات من يراها" فهذا التوجه يبدو واضحا أيضا في اعمال فنانة شابة مثل سارة مدحت التي تنبض لوحات رسمها بالقهوة بكثير من الذكريات فيما عملت أيضا كرسامة لكتب الأطفال التي ابدع فيها حلمي التوني صاحب المقولة الدالة :"الفن لكل الناس". وإذ تتوالى الكتب الجديدة في الغرب عن فنانين بعضهم رحل منذ سنوات طويلة مثل ذلك الكتاب الجديد الذي صدر عن الفنانة السويسرية صوفي تاوبر-ارب التي قضت في مطلع عام 1943 وتعد من ابرز الفنانين التجريديين في القرن العشرين فان وضع صورتها على عملات سويسرية يحمل مغزى واضحا بما فيه الكفاية حول مدى التقدير لفنانين نهضوا بأدوار طليعية في الثقافة الغربية وشكلوا علامات لأجيال تالية وهو ما يتبدي أيضا في الثقافة العربية. فمسيرة الفنانين الكبار كحلمي التوني الذي كرم بالأمس في بيروت وبقية الرواد مثل الفنانين التشكيليين محمود سعيد وعبد الهادي الجزار ورمسيس يونان والأخوين سيف وادهم وانلي وصلاح طاهر وصلاح عبد الكريم وتحية حليم وحسين بيكار وحسن سليمان ومنير كنعان وكلهم شكلوا كوكبة نادرة من المبدعين وجمع بعضهم مابين سحر الريشة والقلم تشكل علامات للأجيال الشابة من المبدعين العرب..كأنه عناق الحكمة والأمل في رحلة الأجيال ومدارات الأيام وشراع الابداع!.