أربعون عاما مضت على رحيل الفنان الذي أعشق فنه وتلحينه وغناءه، أربعون عاما وغابت شمس فريد الأطرش الساطعة وارتفعت إلى عنان السماء، لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذا الفنان المرهف، قد بهر الناس زمانا طويلا، بفنه المستمر مع الأجيال السابقة واللاحقة.. أعشق فريد الأطرش ككثيرين.. وأشعر أنه مازال بيننا بفنه الرفيع والراقي الذي سيعيش فينا دوما.. عرفت عن طباعه الكثير من شخصية كانت تعيش بالقرب منه، ومازالت على قيد الحياة حتى الآن في الثمانينيات من العمر. ولأني لم أستأذن هذه الشخصية في سرد هذا الكلام على لسانها، فلن أفصح عن اسمها.. قالت لي إن الفنان فريد الأطرش كان خلوقا، كريما ومهذبا، أبيض القلب، لم يعرف الخبث، مسرفا على كل من حوله، ولا يعرف معنى الاقتصاد أو "التحويش" في حياته، لذلك كان دائما يعيش حياته دون حساب للغد.. كان فريد فنانا بسيطا مجاملا محبا للناس وتكمل: على عكس فنانين آخرين عاصرتهم في نفس الفترة، كانوا أكثر ذكاء ومكرا وحفاظا على المال منه. موسيقى فريد وعوده الشهير والكلمات التي كان يتغنى بها، تمس الوجدان والقلوب.. فمن أهم الشعراء الذين لحن وغنى لهم فريد الأطرش كانوا: أحمد بدرخان، أحمد رامي، أحمد شفيق كامل، الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، إسماعيل الحبروك، أمين صدقي، أنور عبد الله، أيمن الهيري، بديع خيري، بيرم التونسي، توفيق بركات، حسين السيد، حسين شفيق المصري، خالد الفيصل، أبو السعود الإبياري، شريفة فتحي، صالح جودت، عبد الجليل وهبة، عبد العزيز سلام، فتحي قورة، كامل الشناوي، مأمون الشناوي، محمد حلمي حكيم، محمود فتحي إبراهيم، مرسي جميل عزيز، ميشال طعمه. ينتمي فريد إلى آل الأطرش وهم أمراء وإحدى العائلات العريقة في جبل العرب جنوبسوريا هذه المنطقة المسماة "جبل الدروز" أيضا نسبة لسكانها الدروز. والده: هو فهد فرحان إسماعيل الأطرش من جبل العرب في سوريا، وتزوج من والدته الأميرة علياء حسين المنذر وهي مطربة تمتعت بصوت جميل قادر على تأدية (العتابا والميجانا)، وهو لون غنائي معروف في سورياولبنان والأردن وفلسطين.. توفي والده عام 1925 ودفن في مدينة السويداء في سوريا.. كما توفيت والدته عام 1968 ودفنت في بلدة الشويت في جبل لبنان حيث كان للعائلة منزلا هناك إضافة إلى منزلهم الكبير في بلدة القريا في (السويداء). ولفريد خمسة إخوة: ثلاثة ذكور هم: أنور وفريد وفؤاد وبنتان وهما: وداد وآمال التي أصبحت فيما بعد المطربة الشهيرة أسمهان. وقد عانى فريد الأطرش في طفولته من حرمان رؤية والده وكان كثير التنقل والسفر منذ طفولته، من سوريا إلى القاهرة مع والدته هربا من الفرنسيين المعتزمين اعتقاله وعائلته انتقاما لوطنية والدهم فهد الأطرش وعائلته الذين قاتلوا ضد ظلم الفرنسيين أنذاك في جبل الدروز بسوريا. عاش فريد في القاهرة في حجرتين صغيرتين مع والدته علياء بنت المنذر وشقيقه فؤاد وأسمهان.. التحق بإحدى المدارس الفرنسية ((الخرنفش)) حيث اضطر إلى تغيير اسم عائلته فأصبحت كوسا بدلاً من الأطرش وهذا ما كان يضايقه كثيرا. نفد المال الذي كان بحوزة والدته وانقطعت أخبار الوالد، وهذا ما دفعها للغناء في روض الفرح لأن العمل في الأديرة لم يعد يكفي، ووافق فريد وفؤاد على هذا الأمر بشرط مرافقتها حيثما تذهب. حرصت والدة فريد على بقاءه في المدرسة غير أن زكي باشا أوصى مصطفى رضا بأن يدخله معهد الموسيقى.. عزف فريد في المعهد وتم قبوله فأحس وكأنه ولد في تلك اللحظة.. إلى جانب المعهد بدأ ببيع القماش وتوزيع الإعلانات من أجل إعالة الأسرة.. وبعد عام بدأ بالبحث عن نوافذ فنية ينطلق منها حتى التقى بفريد غصن والمطرب إبراهيم حمودة الذي طلب منه الانضمام إلى فرقته للعزف على العود.. وحينها أقام زكي باشا حفلة يعود ريعها إلى الثوار، فظهر فريد في تلك الليلة لأول مرة على المسرح وغنى أغنية وطنية ونجح في طلته الأولى. ثم بعد ذلك اهتدى إلى بديعة مصابني، التي ألحقته مع مجموعة المغنين ونجح أخيرا في إقناعها بأن يغني بمفرده.. إلا أن عمله هذا لم يكن يدر عليه المال بل كانت أموره المالية تتدهور إلى الوراء. بدأ العمل في محطة شتال الأهلية حتى تقرر امتحانه في المعهد ولسوء حظه أصيب بزكام وأصرت اللجنة على عدم تأجيله ولم يكن غريبا أن تكون النتيجة فصله من المعهد.. ولكن بعد فشله أمام اللجنة، دخل الامتحان ثانية بعد أن أقنع أحدهم، وكانوا نفس الأشخاص الذين إمتحنوه سابقا.. فغنى أغنية الليالي والموال لينتصر أخيرا ويبدأ في تسجيل أغنياته المستقلة. سجل أغنيته الأولى (يا ريتني طير لأطير حواليك) كلمات وألحان يحيى اللبابيدى فأصبح يغني في الإذاعة مرتين في الأسبوع، لكن ما كان يحصل عليه، زهيدا جدا. استعان بفرقة موسيقية وبأشهر العازفين كأحمد الحفناوي ويعقوب طاطيوس وغيرهم وزود الفرقة بآلات غربية إضافة إلى الآلات الشرقية وسجل الأغنية الأولى وألحقها بثانية (يا بحب من غير أمل) وبعد التسجيل خرج خاسرا لكن تشجيع الجمهور عوض خسارته وعلم أن الميكروفون هو الرابط الوحيد بينه وبين الجمهور. قدم فريد للأغنية العربية مجموعة من أجمل الأغاني ابتداءً بالربيع وأول همسة وحكاية غرامي ولديه الحان كثيرة متميزة وكنت تعرف جملته الموسيقية من بين آلاف الألحان وقد نجح كثيرا في غناء ألحانه.. وفي آخر أيامه عاد إلى مصر بعد فترة غياب طالت وغنى لها أغنيات جميلة.. كان صديقا لمعظم الملوك والرؤساء العرب وشارك الشعوب العربية الكثير من احتفالاتها. ولد فريد الأطرش في 21 أبريل عام 1917، وتوفي في بيروت إثر أزمة قلبية 26 ديسمبر 1974، عن عمر يناهز 64 سنة.. ترك بصمات واضحة في الموسيقى والغناء العربي ويعد من أعلام الفن العربي.. لقب (بملك العود) و( موسيقار الأزمان).. الله يرحمك يا فريد.. سيبقى فنك ذكرى خالدة في أنفسنا ما حيينا!!!