فيلم " الشباب " لباولو سارانتينو " : كل سيمفونية الحياة في أغنية بسيطة.. من أجمل الأفلام التي عرضها مهرجان " كان " اليوم الأربعاء 20 مايو في دورته 68 ( من 13 الى 24 مايو ) فيلم " الشباب " YOUTH للمخرج الإيطالي الكبير باولو سارنتينو مخرج فيلم " الجمال العظيم " (الذي أتحفنا به المهرجان في دورة سابقة- وحصل الفيلم الذي لم تنصفه لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في المهرجان أنذاك على " أوسكار " أفضل فيلم أجنبي، وأحسن فيلم أوروبي من انتاج العام في مابعد ! )، ويواصل هنا سارانتينو في فيلمه الجديد المشارك في المسابقة الرسمية للدورة 68 -ونرشحه للحصول على جائزة من جوائزها لعدة إعتبارات سنشرحها فيما بعد .. يواصل مسيرته السينمائية الجديدة، كما في فيلم " الجمال العظيم " .. لطرح تساؤلات الحياة الكبرى.. ويوظف السينما هنا لخدمة قضايا الفلسفة التي تسأل من نحن والى أين نحن ذاهبون وما الذي يجعل حياتنا هذه جديرة بأن تعاش، ثم وهل صحيح - كما تقول شخصية من شخصيات فيلم " الشباب " - عندما يكون المرء شابا، فانه يرى الأشياء كبيرة ، يري المستقبل، لكنه عندما يكون المرء عجوزا، فإنه يرى الأشياء بعيدة جدا ، لا يرى.. إلا.. الماضي..؟ فيلم " الشباب " الذي تقع أحداثه داخل مصحة للاستشفاء في قلب الريف السويسري الجميل وحيث تقع تلك المراعي الخضراء الخلابة، التي ترعي فيها تلك الأبقار السمينة التي نراها على أغلفة أقراص الشيكولاته السويسرية ولا تشبه الأبقار العجفاء عندنا، وتجعل تلك المراعي تزهو بحسنها .. وهدوئها .. وجمالها.. هو فيلم إيطالي أوبرالي " رائع ".. بشخصياته .. ولوحاته وإيقاعه وموسيقاه- ولنتذكر هنا أن "فن الأوبرا" إختراع إيطالي- .. وحيث يبدأ الفيلم ومن أول مشهد في تلك المصحة المشهورة لأثرياء العالم، من عند أغنية تصدح بها شابة حسناء في قلب الليل، على منصة دائرة، ضمن العروض التي تنظمها المصحة لزبائنها من العواجيز وكبار السن من أثرياء القوم وأصحاب الملايين والنجوم، ومن ضمنهم أيضا ملكة جمال العالم، التي تصل أخبار لرواد المصحة عن وصولها عن قريب.. وتحكي الأغنية في أول مشهد من الفيلم عن الشباب والحب وجدوى الاستمتاع بالحياة في كل لحظة، - أحد عناصر فلسفة الزنZEN اليابانية ونرى في الفيلم راهبا بوذيا كذلك في المصحة - كما نلتقي فيها أيضا بلاعب الكرة الارجنتيني مارادونا – يلعب أحد الممثلين دوره هنا - الذي يحاول أن يعالج من سمنته المفرطة ، وإدمانه على المخدرات.. كما نلتقي ببطل الفيلم في شخصية "مايسترو" قائد أوركسترا متقاعد على المعاش يلعب دوره في الفيلم الممثل البريطاني الكبير مايكل كين، وهو في المصحة صحبة إبنته المتزوجة التي تعمل سكرتيرة له في نفس الوقت.. ويلتقي المايسترو في المصحة بصديق له من أيام الشباب، في شخص مخرج سينمائي مشهور، يلعب دوره في الفيلم الممثل الامريكي الكبير هارفي كيتل، وقد تفرغ أثناء إقامته في المصحة لكتابة سيناريو فيلمه الجديد، في صحبة مجموعة من الشباب.. ومن خلال اللقاءات التي تتم بينهما، داخل وخارج المصحة، وفي قلب ذلك الريف السويسري، وفي حضرة المنظر الطبيعي الجبلي الساحر الخلاب. ومن خلال أحاديثهما كذلك، والحوارات التي تقع بينهما وبين شخصيات الفيلم التي تتواجد للاستجمام أو الاسترخاء أو العلاج في المكان، تتطور أحداث الفيلم..ويعرض سارانتينوعبر فيلمه الساحر لسيمفونيته الفيلمية.. وربما كان أجمل مافي فيلم سارانتينو، الذي يوظف السؤال الفلسفي لخدمة السينما، تلك المتعة التي تستشعرها كمتفرج، وأنت تشاهد هذا العمل السينمائي الأوبرالي الهيدوني – عبادة الجمال – الفذ، كما لو كنت تشاهد لوحة من لوحات ليوناردو دافنشي في كنيسة السيلستين في ايطاليا، أو تغرف من ماء إحدي نافوراتها السحرية كما في فيلم " الحياة الحلوة لفيلليني، وتعب من الماء الشهد الشهي الحلال.. إذ يهبط عليك العمل بجماله وينقض عليك ويحتويك في الحال ، وتحس في التو بلذة مخرجه في عمله وإستمتاعه باخراجه، وكذلك بهجة الممثلين أيضا بتمثيله.. وأفلام سارانتينو في هيدونيتها HEDONISME - عبادة الجمال - وخفتها وأناقتها، ومن دون أن تكون أفلام "سنوب " SNOP على أحدث "موضة " ومتعالية بفنيتها، ومن عند فيلم " الجمال العظيم ".. تذكرني بالكاتب المسرحي والروائي الانجليزي أوسكار وايلد ومسرحياته، مثل مسرحية " الزوج المثالي " و " أهمية أن تكون جادا" وغيرهما، بسحر أسلوبه المتأنق، كما في تلك اللوحات السينمائية الجميلة الباهرة التي يصنعها لنا سارانتينو في فيلمه ، وفي كل لقطة لوحة تشعر معها بأنه استمتع غاية الاستمتاع باختراعها وتكوينها، كما في لقطات الأجساد العارية " التحفة " لزبائن المصحة في الحمام، وكما في "التكوينات" من خلال " الكادرات " التي يستحدثها سرانتينو ويبتدعها خارج وداخل المصحة..وفي كل ساعات النهار والليل.. فيلم " الشباب " يناقش بالطبع قضايا كثيرة، من ضمنها العلاقة بين الاجيال جيل العواجيز من كبار السن وجيل الشباب من أعمار مختلفة، فالمايسترو مثلا في الفيلم وهو الشخصية المحورية يواجه مشكلة عدم تواصل مع إبنته التي تعيب عليه انغماسه في الموسيقى، ونسيان أهله، وزوجته وأفراد أسرته ،وتروح تنتقده في ديالوج طويل في الفيلم.. وتصرح له أنه قرأت مع أمها ذلك الخطاب الذي يعلن فيه عن حبه لرجل، وعن مثليته الجنسية، لكن هذا لا يمنعه من أن يحبها، والشباب ليس لديه الوقت لتقدير اي شيء يفعله الكبار، ولن يعترف كما يقول " المايسترو الحكيم " في الفيلم بجميل الكبار عليه، ولن يتذكر من ذكرياتهم الجميلة معه، أو ماصنعوه له، لن يتذكر أي شيء على الاطلاق.. المستقبل للسينما أم للتليفزيون ؟ كما يناقش الفيلم من خلال دور المخرج السينمائي وتواجده في الفيلم عملية صناعة السينما ذاتها ، وعملية إخراج الافلام، ومن خلال عملية الارتجال التي تقوم بها المجموعة التي تصحبه، ينتهي المخرج من كتابة السيناريو، ويحتفل بذلك مع اصدقائه في قلب الريف المحيط بالمصحة في قلب الطبيعة.. تلك الطبيعة التي يتأثر المايسترو في الفيلم بجمالها، وتجعله يتخيل أنه يقود أوركسترا من الأبقار التي تعزف بأجراسها حول الرقبة مع العصافير التي تنطلق من قلب الأشجار وتحلق الى البعيد وهو من أجمل مشاهد الفيلم .. كما يبرز التساؤل الخاص بجدوى وأهمية السينما ، من خلال زيارة الممثلة بطلة الفيلم العجوز التي تقوم بدورها الممثلة الامريكية القديرة جين فوندا- ذكرت في المؤتمر الصحفي في أعقاب الفيلم أن موضوع الشباب هو " موقف " من الحياة، وليس له علاقة بسن المرء، أو عمره- لابلاغ المخرج بأنها لن تضطلع ببطولة الفيلم،وأنها فضلت القيام بمسلسل تليفزيوني، لأنه سيحقق لها مكاسب عديدة، وتقول للمخرج أن المستقبل ليس في السينما، بل في التليفزيون، في حين يؤكد هو لها أن السينما سوف تكون فنا للمستقبل وعن جدارة ،لأنها تعالج موضوع " المشاعر" EMOTIONS وتحكي أساسا عن ..إنسانيتنا.. فيلم " الشباب " لباولو سارنتينو صاحب فيلم " الجمال العظيم " يقول لنا – وضمن أشياء كثيرة في الفيلم في رأيي، أن الاستمتاع بجمال الحياة وبهجتها وفي كل لحظة هو الذي يحدد سننا، ويقرر أيضا، وربما في التو، ما إذا كنا قد ولدنا شبابا أوعواجيز. فالبعض يولد عجوزا ويظل عجوزا طوال حياته - السن مسألة عقلية ونظر - وهو الشيء الذي يجعل بعض الأفراد يخافون من أن يلمسهم أحد أو يحسس عليهم أحد، لأنه قد يستطيع فقط من خلال التحسيس أن يتعرف على شخصيتهم. كما يذكرنا الفيلم من خلال المايسترو العجوز الشاب في الفيلم ، مؤلف مقطوعة موسيقية بإسم " أغنية بسيطة "SIMPLE SONG يتعلم صغير عزفها في الفيلم . يذكرنا المايسترو الذي أخلص طوال حياته، لحب وحيد في حياته – حب الموسيقى – يذكرنا بأننا نستطيع وفقط من خلال التفكير في "المستقبل " كما يقول مارادونا في الفيلم ، ومن خلال عشقنا للحياة والطبيعة في اللحظة.. أجل ..تلك الطبيعة التي يتأثر المايسترو في الفيلم بجمالها وحسنها، وتجعله يتخيل أنه يقود أوركسترا من الأبقار التي تعزف بأجراسها مع العصافير التي تصدح، وتنطلق من قلب الشجر، وتجعلنا نستطيع فقط أنذاك أيضا أن ننسى سننا، ولا نعبأ ابدا بعمرنا، ونحلق معها يقينا الي البعيد.الى كل ممالك الفرح المنشودة ، ويوتوبيا البهجة التي لم نسمع عنها قط، وفقط ب " أغنية بسيطة "..