خلال عام كامل حاول نظام مبارك إظهار جميع الاختلافات السياسية التى تظهر على الساحة فى مصر فى صورة خلافات بين التيارات الإسلامية من جهة والتيارات الليبرالية واليسارية من جهة أخرى. واستحسن بعض الأحزاب والجماعات المحسوبة على الإسلام السياسى هذا التصنيف، اعتماداً على أنه ينقل خصومهم من خانة المختلفين معهم سياسياً إلى خانة أعداء الدين. والاحتماء بفكرة أن مهاجمتهم أو مهاجمة بعض رموزهم تستهدف فى الأساس النيل من الدين. وينطوى حصر الخلافات الدائرة فى الحياة السياسية المصرية ضمن هذا الإطار، على رغبة حقيقية فى إخفاء حقيقة ما يدور على الساحة السياسية. فإذا كان الأمر مجرد خلافات حول المرجعية الدينية، فكيف لنا - على سبيل المثال - أن نفسر سر التحالف بين بعض الأحزاب الليبرالية - مثل الوفد - وبعض الجماعات المحسوبة على تيار الإسلام السياسى مثل الإخوان المسلمين؟! حقيقة الأمر أنه منذ قيام الثورة المصرية حتى الآن، والخلافات السياسية تدور بين تيارين رئيسيين: تيار محافظ تربى فى حضن الاستبداد السياسى خلال ثلاثين عاما، وتيار ثورى رافض للمنظومة الاستبدادية التى يحاول نظام مبارك إدخالنا جميعاً فيها. والمعروف أن التيار المحافظ لا يسعى إلى تغيير جذرى. فأى تغيير جذرى فى طبيعة العلاقات السياسية وشكل الساحة السياسية سينال من رصيده وطريقته فى الممارسة السياسية. فهذا التيار اعتاد القيام بدور المعارضة الصورية، التى لا تقدم بديلاً حقيقياً. وترضى بما يقدمه لها الحاكم من مكاسب: بالحصول على تمثيل نسبى فى بعض المواقع، حسب قدرتها على القيام بالدور المنوط بها، وحسب قدرتها على إقناع المواطنين بأنها معارضة حقيقية، مما يضفى مسحة ديمقراطية على نظام المستبد. ويلتزم هذا التيار المحافظ فى كل الأحوال باللعب فى الإطار المحدد له سلفاً. أما تيار الثورة فهو تيار يرفض أى دور صورى، ولا يقبل أن يكون مجرد لاعب يحدد له المستبد الحاكم حدود تحركاته، والمناطق المسموح له بالمعارضة فيها، والمناطق الأخرى المحظور عليه مجرد التحدث عنها. لأنه يريد تغيير قواعد اللعبة بشكل كامل، ويسعى لبناء وطن ديمقراطى حقيقى ليس فيه موضوعات أو أشخاص فوق مستوى النقد والمحاسبة. لأن النقد والمحاسبة، هما السلاح الديمقراطى الذى تطور به الأمم انفسها. وربما يمارس التيار المحافظ - فى بعض الأحيان - اختبارات إرادات مع المستبد، قد تصل فى بعض الأحيان لأن يهدد بالخروج على القواعد المرسومة له، ويقترب من المناطق المحظور عليه المناقشة أو المنافسة فيها. لكنه لا يبتغى من كل هذه الضغوط إلا استعراض العضلات، كى يوهم المستبد الحاكم بازدياد قوته وقدرته على التأثير، فيكافئه بزيادة الدور المخصص له، أو المقاعد أو المناصب والسلطات الممنوحة. فإّذا تحقق له ذلك، يرضى ويحاول بذل جهد أكبر - داخل الحدود المخصصة له - أملاً فى الحصول على مكاسب أكبر ومساحة أعظم فى التمثيل، وهكذا! لكن تيار الثورة لا يرتضى بغير التغيير الحقيقى بديلاً، وهو مستعد لبذل كل ما يملك من أجل تحقيق ما يحلم به، ولن يرضى بأى مكاسب شخصية أو رشاوى سياسية مقابل إثنائه عن السعى لتحقيق هذا التغيير. فعناصره لا تسعى لدور أكبر فى الحياة السياسية، وإنما لتغيير العملية السياسية بكامل معطياتها، وبناء نظام سياسى جديد ترى أنه كفيل بضمان مستقبل يستحقه الوطن. وبينما يسعى المنتمى للتيار المحافظ إلى دور أكبر لحزبه أو جماعته أو تياره فى الحياة السياسية، يتطلع الثوار إلى دور أكبر لوطنهم فى التأثير على العالم. وعندما يحلم المحافظون بمنصب أو زيادة مساحة التمثيل، يحارب الثوار من أجل إقامة النظام الجديد حتى لو لم يكن لهم شخصياً مكسب فيه. ويضم التيار المحافظ ممثلين من جميع القوى السياسية: ففيهم الإسلامى والليبرالى واليسارى، يصطفون جميعاً من أجل الحفاظ على النظام القديم بأى ثمن، حتى يتمكنوا من الاستمرار فى القيام بالدور الذى اعتادوا عليه. وقد يناور المحافظ أو يهدد بالخروج على القواعد، أو يحاول الظهور بانتمائه للثوار، لكنه لا يبتغى إلا تحسين وضعه التفاوضى، عندما تأتى لحظة التفاوض وإعادة تقسيم الأدوار. وبالمثل، يضم تيار الثورة مختلف الاتجاهات: فلا يقسم أبناؤه أنفسهم بناء على الانتماء السياسى أو الأيديولوجى. فجميعهم - على اختلافاتهم - مشروع شهداء خلال لحظات الثورة، ورصاص المستبد لن يفرق بين إسلامى وليبرالى ويسارى. جميعهم أبناء الثورة، ولن يقبلوا بغير التغيير الحقيقى بديلاً، وكل منهم يفضل أن يدفع حياته ثمنا لتحقيق أحلامه، عن التفاوض والمناورة على مبادئه، أو مقايضة المبادئ ببعض المكاسب والمنافع الشخصية. وفى حين يبحث التيار المحافظ دائماً عن الصفقة، لا يبتغى تيار الثورة إلا النصر. فإذا أدركنا هذا التقسيم، وآمنا بأنه التقسيم الحقيقى للقوى السياسية فى مصر، سوف نكتشف موقعنا منه. وسنعرف المعسكر الذى يجب أن نقف فيه، فإما أن نختار معسكر النظام القديم بفلوله وإسلامييه وليبرالييه وكل أطراف هذا المعسكر يسعون لاستمرار النظام مع تحسين وضعهم فيه - أو الانتماء إلى «تيار الثورة»، الذى لا يعطى للخلاف السياسى الآن الوزن الأكبر: فالجميع يريد إنهاء النظام القديم الذى يحدد فيه المستبد قواعد اللعبة، وبناء نظام الثورة الجديد، القائم على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويتنافس فيه الجميع لتحقيق الصالح العام للوطن.. فأى المعسكرين تختار؟ نقلا عن المصرى اليوم