تحل ذكرى رحيل ياسر عرفات العاشرة والفلسطينيون يعيشون حالة انقسام حادة وواضحة تساهم إلى حد كبير فى المزيد من الإجراءات الإسرائيلية التصعيدية التى تكرس لمنهج تفريغ القضية من مضمونها من خلال سلسلة اجراءات فى مقدمتها زيادة عدد المستوطنات والاستحواذ على المزيد من الأراضى والعمليات المتكررة لتدنيس المسجد الأقصى. يأتى هذا فى أطار حرب كلامية واتهامات متبادلة بين الفصيلين الرئيسيين فى المقاومة الفلسطينية: فتح وحماس على خلفية استهداف منازل قيادات فى حركة فتح بقطاع غزة لعرقلة اجراءات سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع بعد أن خضع سنوات لسيطرة حركة حماس وتشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على إعادة إعمار القطاع وتطبيق اتفاق القاهرة والعودة لصيغة العمل باتفاقية المعابر ورفع الحصار وخوض المفاوضات مع المحتل الإسرائيلى. دور حماس ونشأتها فى مسيرة المقاومة الفلسطينية وأدوارها المتعددة على الساحة الإقليمية وارتباط الحركة بتنظيم دولى (التنظيم العالمى لجماعة الأخوان المسلمين) وفقا للبند الثانى لميثاق تأسيسها له تاريخ ومرجعية وهدف لا يمكن مهما كان حكمنا عليه أن ينال من مسيرة المقاومة الفلسطينية أو يقلل من كفاح هذا الشعب وتضحياته على مر العقود وكذلك مكانة تلك القضية فى عقل ووجدان كل مواطن عربى. فى نوفمبر عام 1994 أجريت حوارا فى جامعة جنوب كاليفورنيا مع ريتشارد هرير دكمجيان أستاذ العلوم السياسية و المستشار السياسى للرئيس الأمريكى الراحل رونالد ريجان ومؤلف الكتاب الشهير "الأصولية فى العالم العربى"؛ وهو سورى من أصل أرمنى يحمل الجنسية الأمريكية ونشرت الحوار فى الأهرام ويكلى وإعاد الراحل الكبير سعد الدين وهبه ترجمته ونشره فى مقاله الأسبوعى بالأهرام اليومى. حيث منحنى دكمجيان إنفرادا عن الدور الذى لعبته الإدارة الأمريكية فى دعم وتمويل فكرة إنشاء حركة حماس فى قطاع غزة؛ وعندما سألته لماذا تسعى واشنطن إلى خلق كيان أصولى إسلامى فى مواجهة حليفتهم إسرائيل؟ قال أن واشنطن ومن خلفها تل أبيب كان لديهما رغبة فى سحب البساط من حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية التى كانت تضم كوادر فى غالبيتها ذات خلفية يسارية ويتحدثون فى معظم الأحيان بلغة بعيدة عن الشارع وقد راى مستشارى الإدارة أن تأسيس أو دعم تأسيس حركة ذات خلفية إسلامية تتحدث باسم الدين وبقاموس ومفرادات الشارع الفلسطينى سيحدث نوع من الإنشقاق يؤثر على شعبية منظمة التحرير وفتح ويمكن توظيفها فى إحداث توازن فى عملية التفاوض واللعب على مشاعر وإيقاع الشارع الفلسطينى ومن ثم العربى. وقد تم لهم ما ارادوا وقامت الإدارة الأمريكية بتوفير دعم 3 مليون دولار للحركة عن طريق أحد الوسطاء لتأسيس الحركة وصلت للشيخ أحمد ياسين ومعاونيه حينذاك بشكل أو بأخر فى شكل دعم للمقاومة وبالطبع دون أن يعرف الشيخ ياسين أنها أموال أمريكية وهكذا كانت تسيير الأمور فى العمليات التى تديرها المخابرات الأمريكية (نشر هذا الحوار فى الأهرام ويكلى وأعيد نشره فى الأهرام فى حياة الشيخ أحمد ياسين ولم يعلق أو ينفى أى من قيادات حماس تلك الوقائع حينذاك).
و منذ ذلك التاريخ خضع دور حماس لضغوط وشروط مصادر التمويل بالدعم المالى والسياسى بحيث يتم ضبط إيقاع الحركة لتكون فى حالة صدام فكرى وسياسى دائم مع منظمة التحرير وحركة فتح ومن بعدهما السلطة الفلسطينية التى تسيطر عليها دائما قيادات من حركة فتح بحيث تستغل إسرائيل وواشنطن دائما هذا الصدام فى إنهيار المفاوضات وضعف الصف الفلسطينى واستمرار عمليات التهويد والاستحواذ على الأراضى وبناء وتوسيع المستوطنات. أضف إلى هذا أرتباط قيادات حماس وكوادرها بأجندة تنظيم دولى وهو جماعة الأخوان المسلمين حيث ينص البند الثانى فى ميثاقها على أنها أحد فروع التنظيم الدولى للجماعة ومن ثم فإن أحد أهم مصادر تمويل حماس هى تلك الأموال تصلها فى من الأخوان ويربطها عضويا بسياساته وأهدافه وهى ليست بالضرورة تصب فى صالح و أهداف الشعب الفلسطينى وتخضع لتوازنات وصراعات لا تخدم بالضرورة القضية الفلسطينية مثلما حدث فى موقف حماس من مجريات الأحداث فى مصر خلال السنوات الأخيرة وحتى الآن. إدارة مواقف حماس عن بعد وخضوع قياداتها لضغوط مصادر التمويل (أمريكية أو قطرية أو تركية) والحماية والإقامة أثر إلى حد كبير فى كل تحركات حماس وجعل من أهالينا فى غزة رهينة لتلك المواقف التى لها أبعاد لا علاقة لها فى معظم الأحيان بالمقاومة ضد كيان محتل وغاصب، وأخضع القضية الفلسطينية للعديد من المزايدات والمصالح التى ليست بالضرورة تتفق ومصالح الضحايا من هذا الشعب المكافح.
نموذج حماس وغيرها من الحركات المسلحة التى تتحدث بأسم الدين وتحتكر الحقيقة بأسم الإسلام هى التى تسيطر على المشهد الحالى فى الوطن العربى وأحبطت وسرقت وشوهت نموذجا رائعا للربيع العربى؛ ونموذج تأسيس ودعم حماس ليس ببعيد عن نموذج تأسيس القاعدة وداعش وأنصار بيت المقدس والجيش السورى الحر وبعض الجبهات السلفية و حزب الله والحوثيين وغيرهم؛ وقديما نموذج دعم وتأسيس الأخوان المسلمين من قبل السفارة البريطانية فى القاهرة لضرب القوى والتيارات و المشروعات السياسية الأخرى. هذا التحليل ليس ببعيد عن أرض الواقع والدور الأمريكى فى دعم الحركات الإسلامية المسلحة أو تلك التى تسعى للوصول للحكم هو واقع و أدعو القارىء إلى أن يعود إلى بعض شهادات رجال المخابرات الأمريكية المتقاعدين التى نشرتها دورية "اتلانتك" الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر عن فشل أجهزة المعلومات حينذاك فى رصد مخططات التفجير فجاءت معظم شهاداتهم تشير إلى أن إفتقاد السى أى أيه وبقية أجهزة المعلومات المبادرة بسبب انسحاب عدد من كوادر تلك الأجهزة من الساحة حيث كانت تقود بنية جمع المعلومات و تقدير المواقف وإدارة الأحداث عن بعد بواسطة كوادر مخابراتية يتم زراعتها لسنوات فى أوساط تلك الحركات فى أطار من المعايشة الكاملة وترتبط بها تنظيميا يلبسون لباسهم ويأكلون أكلهم ويشربون شربهم ويصلون فى مساجدهم ويطلقون لحاهم إضافة إلى عدم التجديد فى تأسيس وخلق عدد جديد من تلك التنظيمات الموالية والتى تدار عن بعد لخدمة المصالح الأمريكية فى المنطقة حتى وصل الخطر إلى داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ وأوصوا جميعا بالعودة وبقوة إلى ذات النهج والسياسات الوقائية. من وجهة نظرى أن كل المحاولات التى نالت من مشهد الربيع العربى و دفعت بما يسمى بتيار الإسلام السياسى وكوادره الفكرية والسياسية والإعلامية التى تنظر له وتدافع عنه وبزوغ أدوار إقليمية جديدة لحماس و داعش و أخواتها هو تنفيذ أمين لتلك التوصيات فهل تعى النخبة العربية الغائبة والمغيبة طبيعة تلك اللعبة والفاعلين فيها كى يأتى نتاج رسم السياسات والاستراتيجيات الوطنية المضادة ارتباطا بواقع مأساوى و أن نستدعى ولو قليل نظرية المؤامرة فى تحليل المشهد بلا سخرية لأن واقعنا بحق لا يحتمل.