«المكان زمان جامد والزمان مكان سائل».. عبارة تجسد الأهمية التاريخية لبعض الأماكن التي تحمل ذاكرة أمة، وتحفظ تاريخ وطن، وتشهد بطولات خالدة، ونضالًا ثوريًّا وحراكًا فكريًّا، لذلك حرصت «البديل» على تقديم سلسلة تحت عنوان «حكاية مكان» تتناول من خلالها بعض الأماكن الشاهدة على ملاحم تاريخية ومعارك فكرية وسياسية.. أو تلك التي كانت صدى لحضارة قديمة أو حادثة غريبة. وتعد قهوة متاتيا، التي كانت تقع بميدان العتبة عند حديقة الأزبكية إلى جوار دار الأوبرا القديمة، أفضل تمثيل للقيمة التاريخية إذا تمثلت في مكان وللحراك الثوري إذا ارتبط بكيان، فهذا الركن الصغير الضئيل حدد مصير أمة لآماد طوال، وسجل تاريخًا من الصعاب والأهوال، وكان شاهدًا على الكفاح والنضال، فمنه هبت ريح الثورة العرابية، وانطلقت دعوات الفكر والتنوير، وفيه أسس جمال الدين الأفغاني أول حزب سياسي بمصر «الحزب الوطني الحر» وألقى بيان تأسيس الحزب من على المقهى أيضًا، ولا يبرحه إلَّا فجرًا، حيث يتأمل حال المصريين وهو يمسك الشيشة بيمناه، ويوزع الثورة بيسراه، ينفث مع دخان شيشته عبارات تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة في نفوس من حوله ليحثهم على الثورة، فيخطب فيهم من على المقهى: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم على الاستعباد وتربيتم في حِجْر الاستبداد، لقد تناوبتكم أيدي الغاصبين من الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه، ويستنزف قوام حيانكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة، لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة، وحصون دمياط، شاهدة بمنعة آبائكم وأجدادكم، هبوا من غفلتكم، واصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارًا، أو موتوا مأجورين شهداء»، ليتم القبض عليه وهو عائد من المقهى برفقة خادمه أبو نراب، ويتم نفيه خارج إلى السويس بتهمة أنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا. اكتسب المقهى الشعبي «متاتيا» جزءًا من مكانته التاريخية بفضل شهرة مرتاديه من الرواد، فقد تردد عليه أغلب الشخصيات التي تكمن فيهم دوافع التضحية والانتماء آنذاك؛ فهؤلاء جمع من الصحفيين والمثقفين الذين يوجهون الرأي، وأولئك حفنة من خبايا الجمعيات السرية ممن يحثون على النضال ويعبئون الشعور الوطني، وتلكم بعض من الأعيان والتجار والباشوات وأصحاب الرتب والمقامات، ممن يطلق عليهم «الحزب الوطني» وغيرهم بل كأن كل قوى هذا الوطن واستعداداته وإقدامه وشجاعته قد تلخصت في هذا المكان الصغير، الذي يحرك بوصلة التاريخ ويوجه ريح البطولة والمجد ليحسم معركة الحرية ويحدد مصير أبناء هذا الشعب، بل كأن هذا المكان كان بوتقة انصهرت في جميع الثقافات على تعدد مشاربها واختلاف مآربها، فهذان شابان سوريان «أديب أسحق وسليم النقاش» حملا إلى المقهى بذور الثقافة الحديثة، وهذا هو المناضل التونسي الحبيب بو رقيبة، الذي سيصبح فيما بعد أول رئيس للجمهورية التونسية، بينما الشاب الطويل اليافع، الذي يجلس منتبهًا ليتعلم الثورة من الثوار، هو سعد زغلول زعيم الأمة وقائد ثورة 1919، وذلك الشيخ القصير محمد عبده، وهذا الريفي الأدباتي خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم، والشيخ عبد العزيز البشري، وإلى جانبهم أول نقيب للمحافين إبراهيم بك الهلباوي، والشاعر محمود سامي البارودي، مؤسس مدرسة الإحياء والبعث، والمفكر الأديب عباس العقاد، وأحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وإبراهيم عبد القادر المازبي، فضلًا عن عبد السلام المويلحي، وهذا المترجم والمفكر محمد بك عثمان جلال، الذي وضع أسس القصة الحديثة والرواية المسرحية. هؤلاء جميعهم أبطال شكلوا تاريخًا سياسيًّا وفكريًّا ودينيًّا لتلك الأمة، لكن البطل الأول هو ذلك المقهى، الذي مارس أدوارًا إضافية كمناخه العام الذي ساهم في تلاقح أفكار مرتاديه، وموقعه الذي جعله مقصدًا لكثير من الشباب والشيوخ والكتاب والمفكرين، ولم يقتصر أبدًا على دوره الأساسي كمان للتسلية وتناول المشروبات وغير من الدور الأساسي للمقاهي، بل استطاع ذلك المقهي أن يجمع رواد الفكر والتنوير مع سائر مرتاديه من عامة الشعب جنبًا إلى جنب ويوحد أفكارهم وجهودهم ونضالهم ويبلورها في عمل عظيم وتاريخ مجيد، وكأن المكان كان هدفًا في حد ذاته، وكان بطلًا مثلهم أو أكثر وصاحب رسالة نبلية يسعى ليؤديها على أكمل وجه، وقد فعل، وما رواده من أبطال وثوار إلَّا أدوات في يد المكان، أو مجرد وسيلته الحية «كونه جماد» لبلوغ حال أفضل في المجالات جميعها، تلك أهمية المكان الذي يفوح بعبق التاريخ، حتى أصبح اختصار لمجتمع برمته. يرجع اسم المقهى إلى مهندس إيطالي يدعى «متاتيا» تولى تصميم حديقة الأزبكية ودار الأوبرا القديمة التي تم حرقها، وعمارة متاتيا التي أنشأها بوسط ميدان العتبة، وكانت العمارة هي الأشهر، حيث كانت تقع بها «لوكاندة مصر»، وتختلف الآراء حول تاريخ إنشاء العمارة الشامخة التي ضمت قهوة متاتيا، فهي ما بين أعوام 1970 و1975 و1977، أما نهايته فكانت بضربة أولى من زلزال 1992 أحدث به بعض التصدعات، وفي عام 1999، قرر محافظ القاهرة هدم عمارة متاتيا الأثرية؛ لإنشاء نفق الأزهر.