رسخ حزب العدالة والتنمية الإسلامي من جديد مكانته في المشهد السياسي المغربي، حيث تصدر الانتخابات التشريعية التي جرت الجمعة الماضية، واستطاع انتزاع فوز وتصدر صعب وسط منافسة حادة مع خصومه المطالبين بالحداثة، الأمر الذي يمكنه من البقاء على رأس الحكومة لولاية ثانية، ليثبت الحزب من جديد أنه قادر على المنافسة وأن مكانته السياسية تتعزز في القصر الملكي والشارع المغربي يومًا بعد يوم. العدالة والتنمية يتصدر أعلنت وزارة الداخلية المغربية أن حزب العدالة والتنمية تصدر النتائج النهائية المعلنة أمس السبت، بحصوله على 125 مقعدًا من أصل 395، حيث حصل الحزب على 98 مقعدًا في الدوائر الانتخابية المحلية، و27 مقعدًا على اللائحة الانتخابية الوطنية، وتلاه خصمه الرئيسي المُقرب من العاهل المغربي، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي فاز ب81 مقعدًا محليًّا و21 مقعدًا وطنيًّا، ليكون مجموع المقاعد التي حصل عليها الحزب 102 مقعد. من المتوقع أن ينجح العدالة والتنمية في تشكيل ائتلاف حكومي جديد يضم إلى جواره الحركة الشعبية "يمين الوسط"، وحزب التقدم والاشتراكية "يسار"، بينما يظل من المحتمل أن ينضم إليه كل من حزب الاستقلال "محافظ"، والتجمع الوطني للأحرار "يمين الوسط مُوالٍ للقصر"، والاتحاد الدستوري "يمين الوسط"، لكن في المقابل من المؤكد أن الغريم السياسي الرئيسي للعدالة والتنمية، حزب "الأصالة والمعاصرة"، لن يتحد معه في الائتلاف الحكومي، بل سيتزعم المعارضة، محاولًا إضعاف الائتلاف الحاكم، وسيتحد معه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية "يسار"، وربما حزب الاستقلال أو الاتحاد الدستوري في حال تخلي أحدهما عن المشاركة في الائتلاف الحكومى. مراحل تأسيس "العدالة والتنمية" يرجع تأسيس حزب العدالة والتنمية المغربي إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي، فهو يعتبر امتدادًا لحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، الذي تأسس في عام 1967، على يد زعيم الحزب ورئيس البرلمان المغربي آنذاك، عبد الكريم الخطيب، وهو كذلك أحد رجال جيش التحرير المغربي ضد الاحتلال الفرنسي عام 1953. في عام 1981 انقسمت الحركة إلى عدة اتجاهات من بينها "الجماعة الإسلامية" التي شكلها "عبد الإله بن كيران" و"محمد يتيم". في عام 1992 تغير اسم "الجماعة الإسلامية" ليكون "حركة الإصلاح والتجديد"، وفي عام 1994 ائتلفت حركة الإصلاح والتجديد مع رابطة المستقبل الإسلامي بقيادة "أحمد الريسوني"، ليكوّنا "حركة التوحيد والإصلاح"، وخاضت الحركة الجديدة مفاوضات مع زعيم حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، عبد الكريم الخطيب، لانضمام كوادر من الحركة إلى حزبه، وقد تم تدشين ذلك بالفعل في مؤتمر عام 1996، وهنا تحول اسم الحزب بعد مؤتمره عام 1998 إلى "حزب العدالة والتنمية"، برئاسة "الخطيب" الذي ظل أمين عام الحزب حتى عام 2004، وخلفه سعد الدين العثماني، كأمين عام للحزب حتى عام 2008، ثم تبعه عبد الإله بن كيران حتى اليوم. يُعرّف الحزب نفسه منذ بدايته على أنه "حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقًا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي، ومزدهر ومتكافل، مغرب معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيًّا في مسيرة الحضارة الإنسانية". كما يُعد حزب العدالة والتنمية من الأحزاب الأكثر انفتاحًا على الحداثة الإيجابية وذا ديمقراطية داخلية فعلية. خاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات التشريعية عام 1997، وحقق فوزًا مقدرًا بالنظر إلى محدودية الدوائر التي شارك بها، حيث شارك في 24 دائرة من أصل 325، وحصل الحزب منها على 9 مقاعد في البرلمان، لكن الحزب خطا بخطى ثابته تدريجيًّا تجاه الانتخابات البرلمانية على مدار السنوات اللاحقة، ففي عام 2002 خاض الانتخابات مرة أخرى ليحصد 42 مقعدًا من مجموع 325، وفي عام 2007 حصل الحزب في الانتخابات ذاتها على 46 مقعدًا، وفي عام 2011 خاض الانتخابات التشريعية من جديد، ليحقق فوزًا كاسحًا ب107 مقاعد، يحصل بموجبها على حق تشكيل وزارته الائتلافية الأولى عام 2012. الربيع العربي.. نجاة النظام المغربي وتعزيز مكانة الإسلام السياسي على عكس الأحزاب الإسلامية في باقي الدول العربية وأبرزها مصر وسوريا، استطاع حزب العدالة والتنمية المغربي ذو التوجه الإسلامي الخروج من السخط الشعبي خلال الربيع العربي عام 2011 بتعزيز مكانته السياسية، فمع اندلاع الربيع العربي في 20 فبراير عام 2011 سعى العاهل المغربي، الملك محمد السادس، إلى احتواء الغضب الشعبي والنجاة بدولته من لهيب الربيع العربي، الذي دمر العديد من الدول العربية، فما كان من الملك المغربي إلا أن طرح تعديلًا دستوريًّا يلبي النداءات الشعبية، واشتمل هذا التعديل على إلزام الملك بتكليف رئيس الوزراء من الحزب الفائز بالأغلبية في البرلمان، إلى جانب نقل بعض صلاحيات الملك إلى البرلمان ورئيس الوزراء، وجعل الأمازيغية لغة رسمية مع العربية. حاز التعديل الدستوري، الذي عُدّ حينها متقدمًا ومنفتحًا، على موافقة بنسبة 98.5% في استفتاء مطلع يوليو عام 2011، لتجرى عقبه انتخابات تشريعية يفوز فيها حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية بالأغلبية، ويشكل على أثرها وزارته الائتلافية الأولى عام 2012، برئاسة أمين الحزب، عبد الإله بن كيران، و11 وزيرًا من العدالة والتنمية، و6 من حزب الاستقلال، و4 من الحركة الشعبية، و4 من حزب التقدم والاشتراكية اليساري المنضم للائتلاف، وعدد من الوزراء التكنوقراط، وحازت الحكومة حينها على تأييد 217 نائبًا من أصل 395 في البرلمان المغربي. لكن عام 2013 انسحب حزب الاستقلال من الائتلاف، وحل محله حزب التجمع الوطني للأحرار، فاستمر العدالة والتنمية في زعامة الحكومة بأغلبية ائتلافية بلغت 213 نائبًا. مع وصول الحزب إلى سلطة تشكيل ائتلاف حكومي، كان قد أدرك جيدًا أن بقاءه في الحكم رهن الحصول على دعم قوي من القصر الملكي، الأمر الذي جعله ينتهج مبدأ "المشاركة لا المغالبة" وهو ما ينم عن ذكاء ومكر سياسي غير مسبوق في منهج العديد من الحركات الإسلامية العربية، حيث أبدى رئيس الحزب "بنكيران" احترامه للملك مرارًا، وأكد في العديد من المناسبات أنه لا يسعى إلى تحدي سلطة الملك الرمزية والدينية وسلطته السياسية في أهم القضايا التي تواجه قادة المغرب، حتى إن "بنكيران" دأب على القول إنه "مجرد مساعد للملك، وإنه لا يسعى لتفعيل صلاحياته الدستورية"، وقد عمّقت هذه المقاربة الثقة بين الرجلين. يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية المغربي استطاع تحت قيادة أمينه العام، عبد الإله بن كيران، أن يرسم نموذجًا فريدًا من نوعه في شمال إفريقيا والعالم العربي، ليمثل الإسلام السياسي الذي يسعى لإصلاح المجتمع وتطوير البنى التحتية المجتمعية الاقتصادية والثقافية، بعيدًا عن النزاعات الأيديولوجية الفرعية، متجنبًا في الوقت نفسه إقحام الدين في السياسة، على عكس الأحزاب الإسلامية الأخرى في العديد من الدول، ففي الوقت الذي وصل فيه إسلاميو حزب العدالة والتنمية في المغرب إلى الحكم، وصل حزب النهضة إلى الحكم بتونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وذلك عقب احتجاجات الربيع العربي في عام 2011، وبينما انسحبت حركة النهضة التونسية من الحكومة بفعل الضغط الداخلي والخارجي، وتم سجن أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين وعلى رأسهم الرئيس الأسبق محمد مرسي، استطاع حزب العدالة والتنمية في المغرب تثبيت موقعه ومكانته والبقاء على رأس الائتلاف الحكومي.