بدأ أحد الاصدقاء حديثه قائلا: (إحنا من الأخر كده اتهزمنا).. كان يقصد أن الثورة قد هزمت. لم يقل انهزمنا تحديدا، لكنه استخدم كلمة من القاموس الشعبي، لا داع لإيرادها هنا. رد عليه صديق آخر: (هو في حد بينهزم واللعبة لسة في أولها؟ ثم الشباب اللي في الشارع.. دول جيل البلاي ستيشن، مبيبطلوش لعب غير لما يقتلوا الوحش).. سأعود لمسألة الهزيمة لاحقا. هناك رواية إيطالية اسمها “فونتمارا”، تطرح في أحد مقاطعها تفسيرا للفارق الاجتماعي الهائل بين الأغنياء والفقراء، لماذا يملك البعض كل شئ، والآخرون لا يملكون أي شئ.. التفسير هو إرادة الله، الذي نظر إلي الناس من الأعالي، ووزع عليهم حسناته وهداياه.. فأعطي البعض الكثير.. وحين جاء دور الفقراء، كانت الهدايا قد انتهت، فلم يجد الله في جعبته لإهداء الفقراء سوي القمل، فرمي عليهم من عليائه بعض القمل” . أعزائي نشطاء اللجان الإلكترونية، سواء كانت لجان أمن الدولة الوطني، أو المجلس العسكري، أو المخابرات، أو الإخوان المسلمون، أو السلفيين، قبل أن تتكرموا علي بسبابكم، المعتاد، واتهامي بالكفر، أود أن أشير إلي أنني ناقل للحكاية وفقط. نقلتها لأن المجلس العسكري – سيدكم ومولاكم – ذكرني بها. ما ذكرني بهذا المشهد من الرواية، هو مفارقة صغيرة: أن الفاصل الزمني ما بين خبرين، كان يومين وفقط.. الخبر الأول هو الهدايا التي سيلقيها المجلس العسكري من الطائرات، لإذلال الناس تحت يافطة إهدائهم، والاحتفال معهم بذكري الثورة. أما الخبر الثاني فقد كان تلك التسريبات الأخيرة عن حسنات المشير يوم 23 يناير.. احتمالية أن يهيدنا إلغاءه لقانون الطوارئ، وتقليص صلاحيات المجلس العسكري.. إلي آخره من مكرمات الباب العالي. وبمناسبة القمل: ياريت يا سيادة المشير مترميش علي التحرير قمل... لحسن نعدي بيه حلفاءك في البرلمان القريب. تعليق الصديق حول هزيمتنا، وتفصيلة القمل الذي سيلقونه علينا يوم 25 يناير، مرتبطتان.. نعلم جميعا أن أي خطوة إيجابية أو إجراء صحيح، صغير أو كبير، اتخذته السلطة العسكرية منذ يوم 11 فبراير، وحتي الآن، جاء كنتيجة لضغط وقوة الشارع. لكن السؤال الحالي هو: لماذا الإعلان عن هذه الحسنات الآن؟ ولماذا محاولة إنقاذ الذات، وإخفاء العورة، المبكرتين؟ هل وصل خوف السلطة إلي هذا الحد؟ حين أتحدث عن العورة، أقصد بها عورة المجلس العسكري وحلفائه. وقد جائتني كلمة العورة من وحي سحل النساء المصريات وتعريتهن. وهو ما لن ننساه أبدا. الخوف مما سيحدث في 25 يناير المقبل والأيام التي ستليه، هو العامل الوحيد القادر علي تفسير كل حملات السلطة العسكرية وحلفائها الدينيين خلال الأسابيع الأخيرة.. ومن ضمنها حملات الترهيب والترغيب، والشائعات، التي يقوم بها الآن المحترفون، وليس الرويني، لواء الإشاعات، محدود الأداء والموهبة. اللعبة الآن يتولاها السياسيون والإعلاميون الأكثر ذكاءا، وتستخدم فيها كل أنواع الأسلحة. يتضخم الخوف لدي السلطة، لأن طرف الثورة قد حقق انتصارات حقيقية خلال المراحل السابقة، أشرت أنا وغيري إليها من قبل، ولا داعي لتكرارها. لكن هناك تفصيلة رمزية، أود التوقف عندها: هل نتذكر الحملة علي الاشتراكيين الثوريين؟ بداية، كان علي الاشتراكيين الثوريين إرسال برقية شكر، إلي المجلس العسكري والإخوان وتوفيق عكاشة، علي الدعاية المجانية التي قدمتها هذه الأطراف المختلفة/المتحدة، إليهم. لأنهم قد خرجوا منتصرين من هذه الحملة، وتضاعفت شعبيتهم. هذا أحد جوانب الانتصار، ماذا عن الجوانب الأخري؟ لدي بعض التساؤلات النفسية، المتعلقة بالمدي البعيد.. بماذا سيشعر هذا العضو القاعدي، الشريف والمخلص من جماعة الإخوان المسلمون، حين يجد أنه جماعته “المناضلة” توضع في نفس الكفة مع السلطة العسكرية التي قتلت المواطنين، ومع هذا النموذج المدعو توفيق عكاشة، للتشهير بجماعة سياسية أخري ومحاولة إضرارها؟ ماذا سيكون شعوري حين أجد جريدتي، “الحرية والعدالة”، تلعب دور جريدة “مايو” المتوفية، ولعبة الأجهزة الأمنية السرية، التقليدية، لضرب مجموعة ثورية؟ ماهو موقفي حين أجد قيادتي التي أحترمها، تمنح صكوك الغفران وضمانات الخروج الآمن للقاتل الجنرال؟ كيف سأواجه ابني المراهق، الذي يعلم انتمائي لهذه الجماعة، منذ كنت في عمره، بعد أن يعلم مهزلة الدية لأهالي الشهداء، والتي أقل ما توصف به أنها مخزية، وتجلب العار علي الجماعة؟ جائتني هذه الأسئلة، أو محورها، اليوم الذي حاورت فيه ريم ماجد، علي الهاتف، سامح نجيب من الاشتراكيين الثوريين، وجمال تاج، الإخواني، الذي تم تكليفه بتقديم البلاغ ضدهم. مقابل هدوء ممثل الاشتراكيين الثوريين، ودفاعه عن أفكاره، بالرغم من فرضية أنه متهم، كان الطرف الآخر، جمال تاج، ابن حزب السلطة، مرتبكا وغير قادر علي الكلام.. اكتفي بأن يقول بعصبية (خلاص بقه.. الموضوع اتقفل وسحبت البلاغ... خلاص الموضوع خلص المفروض منتكلمشي فيه). الموضوع خلص ومنتكلمشي فيه؟ طب نتكلم في إيه؟ عن فضيحة اتهام “أخت الأخوات” المشاركات في مسيرة النساء يوم 20 ديسمبر، أكبر مسيرة للنساء في مصر، علي الأقل خلال الستين عاما الأخيرة، بأنهن متمولات وغير شريفات؟ نتحدث عن هذا، أم أنه لا يليق؟ هذه الانتصارات الرمزية، كيفية انتهاء حملة الاشتراكيين الثوريين، ومسيرة النساء، حتي وإن كانت انتصارات صغيرة، إلا أنها تؤكد علي أن هذا الشعب لحمه شديد المرارة، ولا يؤكل. هل هناك دليل أكثر وضوحا من أحمد حرارة؟ ببعض التأمل لطريقة أحمد حرارة وأدائه، هو وأمثاله من مناضلي هذه الثورة، نستطيع أن نفهم معني فكرة عدم التوقف عن اللعب، أو عن الثورة، أو عن التضحية، حتي مقتل الوحش. يعبر أحمد حرارة عن حالة منتشرة، من الهدوء والصبر والإصرار والشجاعة الاستثنائية. وهي حالة تترجم يوميا إلي أفعال، وهي الخطر الحقيقي الذي يهدد السلطة وحلفائها الدينيين. وتعني في نفس الوقت إمكانيات انتصارنا، لأن لحمنا مر. لا أذكر من الذي قال أن “تونس ليست مصر”، و أن “الإجابة ليست تونس”.. إلي آخر هذه الهلاوس!!! في يناير 2011، أهدانا التوانسة هذا الشعار الساحر: (الشعب يريد إسقاط النظام). وبعدها بعام كامل، يقومون باهدائنا، من جديد، الشعار المناسب، في وقته: لا خوف لا رعب.. السلطة لأيد الشعب. المجلس العسكري، ونظام مبارك، ومن يجهزون حقائبهم ليشكلوا السلطة الجديدة، عبر الأغلبية البرلمانية غير النزيهة، يتمنون أن تكفينا الحسنات. إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن وقت قبول الهدايا من عليائهم، والخروج الآمن للخاسر، قد انتهيا.. لا يجدي إصلاح هنا أو هناك.. أو كبش فداء هنا أو هناك. لم يعد الجيش والشعب إيد واحدة. لقد سقط هذا الشعار، وسقطت معه كل أطروحات نزاهة المجلس العسكري، وحسن نيته، وأنه حمي الثورة، وأنه شريك بها.. بالرغم من أن أغلب من روجوا لهذه الأفكار، لم يعتذروا عنها بعد. وهو اعتذار مطلوب. لم تعد القصة أن يكون النقاش مفتوحا أو مغلقا لميزانية المؤسسة العسكرية. القصة الآن هي أننا نريد السلطة كاملة لأيدى الشعب.. سلطته داخل الثكنات وخارجها، فهو من يدفع مرتبات ساكنيها.. وهو من يمول هذه الهدايا/القمل الذي سيلقونها علينا يوم 25 يناير. من سيخرج إلي الشوارع يوم 25 يناير، يعلم أن حصول الشعب علي السلطة كاملة، رهن باستمرار الثورة، رهن بهزيمة المشير وحلفائه، ومعهم كل التيارات السياسية التي تلعب علي حجر هذه السلطة، أيا كانت. المهمة الآن هي إسقاط المجلس العسكري، وأن تكون كل السلطة للشعب.. ربما لن نحقق هذا الهدف يوم 25 يناير المقبل، لكننا نستطيع التقدم خطوة، نستطيع إيلام هذه السلطة من جديد، لنحققه بعدها.. فمازلنا في بداية اللعبة، ومازال لدينا الآلاف من أحمد حرارة. باسل رمسيس [email protected]