تناولنا في المقال السابق الذي يحمل نفس العنوان إشكالية الاجتهاد في تجديد الأحكام الشرعية، بناءً على العلة، وأن الاجتهاد هنا يكون مبنيا على فرضية غير مثبتة يقينا، والبناء عليها يعتبر خللا مركبا، وضربنا مثلا بفرض الحجاب أو تحريم المثلية الجنسية وغير ذلك من التشريعات، وقلنا أنه لم يثبت لدينا بشكل قطعي أن تحريم الحجاب جاء في الأساس لمنع الشهوة أو الفتنة بالجمال أو أن المثلية الجنسية تم تحريمها لحفظ النسل أو النوع، وبالتالي حتى لو أصبح كشف الشعر يوما ما غير مثير للرجال فهذا لا يعني انتفاء حكم الحجاب، ولو استطاع الرجال الحمل والولادة فلن يعني هذا جواز المثلية الجنسية.. ونضيف هنا فنقول أن نفس الإشكالية موجودة أيضا فيما يسمى بأسباب النزول، والبناء عليها في فهم الحكم التشريعي أيضا، فأغلب ما ورد في أسباب النزول ظني الثبوت ولا يمكن البناء عليه في تثبيت أو نفي الحكم الشرعي المثبت بنص قطعي الثبوت لأنه بالمنطق "القطعي لا ينفيه الظني" .. ومن هذه الإشكالية ننطلق لإشكالية جديدة مترتبة عليها، وتتمثل في تساؤل مشروع: هل نصل من هذه النتيجة إلى أن الشريعة جامدة وغير متطورة؟ وأن صلاحيتها غير أبدية ومرتبطة فقط بزمانها ومكانها كما يقول البعض.. فالظاهر أنه وبناءً على ما سبق، ومادمنا لا نعلم علل الشرائع بشكل قطعي، فالشريعة لا يمكن تغييرها أو تطويرها إلا في حدود ضيقة جدا؛ لأن النص غير متغير مهما تغير الزمان أو المكان .. ولكن قبل أن نتجه في هذا الاتجاه علينا أولا أن نفهم سويا ما هي الشريعة التي نصفها بأنها جامدة؟ الشريعة هي مجموعة من القوانين والآليات والأحكام تهدف إلى تنظيم حياة الناس، ومن هذا التعريف العام نخلص إلى أن البشر يحتاجون للشريعة بمفهومها العام في كل زمان ومكان، فأي تجمع إنساني يخلو من الشرائع يصبح بالضرورة همجيا وفوضويا، فالشريعة صلاحيتها أبدية طالما كان هناك إنسان يعيش على هذا الكوكب، والاحتياج للتشريع والتنظيم فطري إذا استثنينا بعض المدارس الحديثة التي تتبنى اللاسلطوية والشكل الحيواني للمجتمع الإنساني، وهي مدارس شاذة عن المجموع .. ونقول أن التشريع كان ومازال له مصدران على مدار التاريخ، فإما أن يكون بشريا محضا يجتهد الناس في صياغته وتنظيمه، وإما أن يكون إلهيا عبر وسيط بشري حسب ما يعتقد المتدينون في العالم، وفي الحالتين يتحول التشريع إلى مجموعة من النصوص المكتوبة التي يطبقها الناس في المجتمع بكل مؤسساته وهيئاته .. وفي الحالتين أيضا وبعد وضع النصوص وحفظها يتم وضع جهة محددة من نفس "نوعية المصدر" تكون مسئولة بشكل كامل عن تغيير أو تطوير او حتى إلغاء تشريعات وأحكام. في الحالة الأولى يكون خبراء القانون وعلماء الاجتماع والمتخصصين الذين يختارهم "الناس" بصفتهم مصدر التشريع هم من لهم حق مراجعة التشريعات والأحكام دون الخروج عن الهدف الكلي، الذي وضعت من أجله التشريعات، والتي حددها "الناس" بصفتهم مصدر للتشريع.. وإذا حاول البعض تطويرها بشكل خارج عن الأهداف الكلية المحددة مسبقا أو بآلية مغايرة لتلك الآليات التي حددها الناس فيعتبر وقتها "مارقا أو خارجا عن الشريعة". ويسوء الحال بالضرورة حال تصدي خبراء وعلماء مزيفين وأصحاب مصالح للتشريعات والقوانين، فيتمسكون بالنصوص ويحرفون معناها بما يفيد توجهاتهم ومصالحهم، وليس هناك ضمانة إلا التحري بدقة والبحث بشكل جدي عن خبراء مخلصين وحقيقيين ولاؤهم الأول والأخير ل"الناس" بصفتهم مصدر التشريع .. وفي الحالة الثانية يكون خبراء القانون لو صح التعبير والعلماء الذين يختارهم "الله" بصفته مصدر التشريع هم من لهم حق مراجعة التشريعات والأحكام دون الخروج عن الهدف الكلي، الذي تمت من أجله التشريعات، والتي حددها "الله" بحسبه مصدر التشريع .. وإذا حاول البعض تطويرها بشكل خارج عن الأهداف الكلية المحددة مسبقا أو بآلية مغايرة لتلك الآليات التي حددها الله فيعتبر وقتها "مارقا أو خارجا عن الشريعة" . ويسوء الحال بالضرورة حال تصدي خبراء وعلماء مزيفيين وأصحاب مصالح للتشريعات والقوانين فيتمسكون بالنصوص ويحرفون معناها لما يفيد توجهاتهم ومصالحهم وليس هناك ضمانة إلا التحري بدقة والبحث بشكل جدي عن خبراء مخلصين وحقيقيين ولاؤهم الأول والأخير ل"الله" بصفته مصدر التشريع .. ولست في هذا المقال بصدد التفضيل بين الحالتين وإنما لشرح أن الإشكالية موجودة لدى الحالتين، وأن ما يثار حول إشكالية جمود الشريعة الإسلامية ببساطة هو إشكالية لدى أي تشريع، وأمام هذه الإشكالية توجه المسلمون ل 3 طرق، الطريق الأول كان هو الالتزام بالنص الديني والاجتهاد في حدوده ومع مرور الوقت أيضا توقف الاجتهاد في حدوده، وأصبح اجتهاد في حدود المجتهدين الأوائل، وهم من يعرفون بأهل الحديث أو السلفيين أو الإخباريين، أما الطريق الثاني فاعتبر أن العلماء الذين يشهد لهم بالعلم هم أهل التشريع والتطوير والتجديد، وأن شريحة العلماء إذا صلحت وأخلصت حقا يصلح شأن الامة، وإذا نخرها السوس فسدت، وفسدت معها الأمة، وهذا الطريق الثاني يجعل الشريعة الإسلامية والشريعة البشرية على قاعدة واحدة، من حيث أن فمن يغلب الشريعة البشرية على الإسلامية، فهو مغالط لنفسه؛ لأنه لا يبدو هنا فارق كبير وجوهري بين الحالتين، كما شرحنا مسبقا، أما الطريق الثالث فاعتبر أن أهل العقل والحكمة هم رجال الله الحقيقيين، وأن أهل العقل المؤمنين بكون العقل ومنهجهه حاكما على النص هم القادرون على حمل لواء الشريعة؛ لتكون صالحة في كل زمان ومكان، وأنه بما أن "الله" هو عقل هذا الكون والمدبر وصرف الوجود الناتج عنه كل موجود، فكلما اكتمل عقل الإنسان صار أقرب في اتصاله بالعقل الكلي ومدبر الوجود، ومن يصل بعقله لحد الكمال البشري يكون رجلا لله ووسيطا لترجمة شرائعه وأحكامه، وهو من يسميه أفلاطون في جمهوريته "الفيلسوف الحاكم" أو "جمهورية الفلاسفة" وفي هذا الطريق يكون التشريع الإلهي أقوى بمراحل من التشريع البشري كونه لا يخضع لتجارب ومغامرات، وحارسه على الدوام العقل، وسلاحه المنطق، وجيشه الحكماء والعقلاء .