«هجر الأرض حين ملّ مقامه.. وطوى العمر حيرة و سآمه.. هيكل من حقيقة و خيال.. ملك الحبّ و الجمال زمامه.. ألهم الشعر أصغريه فرفّا.. في فم الدّهر كوثرا و مدامه.. سلسبيل من حكمة و بيان.. فجّر الله منهما إلهامه.. تأخذ القلب هزّة من تسا.. قيه و ينسى بسحره آلامه» مقطع من قصيدة «شوقي» لأحد أعلام الرومانسية العربية بجانب جبران خليل جبران، وأمل دنقل، وأحمد زكي أبو شادي، هو الشاعر على محمود طه، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 17 نوفمبر عام 1949، وذكر مصر قائلا «كم شهيد فيك مهدور الدّماء لا تراعي ! أنت أمّ الشهداء.. كلّ غال من متاع و دم لك يا مصر، و ما عزّ الفداء». في الثالث من أغسطس سنة 1901 بمدينة المنصورة عاصمة الدقهلية ولد علي محمود طه، لأسرة من الطبقة الوسطى وقضى فيها صباه، حصل على الشهادة الابتدائية وتخرج في مدرسة الفنون التطبيقية سنة 1924م حاملاً شهادة تؤهله لمزاولة مهنة هندسة المباني واشتغل مهندساً في الحكومة لسنوات طويلة، إلى أن يسّر له اتصاله ببعض الساسة العمل في مجلس النواب. احتل مكانة مرموقة بين شعراء الأربعينيات في مصر منذ صدور ديوانه الأول "الملاح التائه "، وفي هذا الديوان نلمح أثر الشعراء الرومانسيين الفرنسيين واضحاً لا سيما شاعرهم لامارتين، وإلى جانب تلك القصائد التي تعبر عن فلسفة رومانسية غالبة كانت قصائده التي استوحاها من مشاهد صباه حول المنصورة وبحيرة المنزلة من أمتع قصائد الديوان وأبرزها، وتتابعت دواوين علي محمود طه بعد ذلك فصدر له: ليالي الملاح التائه (1940)- أرواح وأشباح (1942)- شرق وغرب (1942)- زهر وخمر (1943)- أغنية الرياح الأربع (1943)- الشوق العائد (1945)- وغيرها. كان التغني بالجمال أوضح في شعره من تصوير العواطف، وكان الذوق فيه أغلب من الثقافة . وكان انسجام الأنغام الموسيقية أظهر من اهتمامه بالتعبير. قال صلاح عبد الصبور في كتابه " على مشارف الخمسين ": قلت لأنور المعداوي: أريد أن أجلس إلى علي محمود طه. فقال لي أنور : إنه لا يأتي إلى هذا المقهى ولكنه يجلس في محل " جروبي " بميدان سليمان باشا. وذهبت إلى جروبي عدة مرات، واختلست النظر حتى رأيته .. هيئته ليست هيئة شاعر ولكنها هيئة عين من الأعيان . وخفت رهبة المكان فخرجت دون أن ألقاه، ولم يسعف الزمان فقد مات علي محمود طه في 17 نوفمبر سنة 1949 إثر مرض قصير لم يمهله كثيراً وهو في قمة عطائه وقمة شبابه ، ودفن بمسقط رأسه بمدينة المنصورة . ورغم افتتانه الشديد بالمرأَة وسعيه وراءها إلا أنه لم يتزوج . ويعد الشاعر علي محمود طه أبرز أعلام الاتجاه الرومانسي العاطفي في الشعر العربي المعاصر ، وقد صدرت عنه عدة دراسات منها كتاب أنور المعداوي " علي محمود طه: الشاعر والإنسان " وكتاب للسيد تقي الدين " علي محمود طه، حياته وشعره " وكتاب محمد رضوان " الملاح التائه علي محمود طه "، وقد طبع ديوانه كاملاًََ في بيروت .