بلون جلده الأسمر الممتزج تراب الوطن وطيبة القلب، يحمل بين عيونه طيات طراز خاص لبلاده، أسنانه البيضاء تضيء بالبسمة في أشعة الشمس اللامعة، ولون النيل الأزرق يعكس إصراره على البحث عن وطن لا يزال تائهًا رغم انتمائه لمصر.. إنه سعيد الجبالي ابن النوبة. بلاد النوبة لم تكن بلدة فقط، ولكنها حضارة متكاملة الأركان، حضارة أركانها سياسة وفن وعادات وتقاليد صارمة كالقوانين، لا يستطيع أحد الخروج عن تلك العادات، لذا يعمل سعيد بمهنة "مراكبي"، على الرغم من حصوله على الماجستير في العلوم السياسية والاقتصاد؛ حيث إن عقيدة العمل عند النوبيين أن الابن ليست له وظيفة سوى التي ورثها من أبيه، خاصة إن كان هو ابن الوحيد له؛ حتى لا يضيع مستقبل أسرة بأكملها. يروي الجبالي قصته ل "البديل" وتخرجه من كلية العلوم السياسية وحصوله على الماجستير، قائلاً إنه كان ينوي أن يستكمل دراسته للحصول على الدكتواره؛ ليعمل بها، ويترك مهنة والده، ولكن شاءت الأقدار أن يتوفى أبوه بعد انتهائه من الماجستير، فقرر العمل بمهنة أبيه "مراكبي"؛ للإنفاق على الأسرة التي أصبح مسئولاً عنها. يقول الجبالي "عملي كمراكبي لم يكن في البداية عملاً متعبًا بالنسبة لي، بل كان متعة، خاصة أن النيل في أسوان ذو لون ورائحة مميزين، تبعثان فيك الأمل والحياة كل يوم، لكن مع الانخراط في العمل واجهتني مشاكل عدة، فالحصول على ترخيص لمركب أصبح يحتاج إلى معاناة وتوجه إلى المحافظة ومنها إلى القاهرة حيث مقر هيئة النقل النهري، وهناك يماطلون بشكل مبالغ فيه حتى نحصل على ترخيص لمدة عام واحد". وتابع "الجبالي" أن العمل على المركب لا يأتي بأموال تكفي لإعالة أسرة إلا في موسم السياحة فقط في شهور الشتاء، معقبًا أنه حتى في العام الماضي وما سبقه كان موسم الشتاء بلا سياح في الأقصروأسوان؛ بسبب الحالة السياسية التي كانت تمر بها مصر، وعلى الرغم من ذلك قامت هيئة النقل النهري بفرض ضرائب سياحية على جميع المراكبية. واستطرد "لم أكن أتخيل في يوم أن حياتي تتحول إلى ذلك الجحيم الذي أعيشه، فالدولة تعامل المراكبي على أنه شخص لا قيمة له، في حين أن معاملتي حين كنت حاصلاً على ماجستير في العلوم السياسية مختلفة تمامًا"، مشيرًا إلى أنه لا يستطيع التخلي عن المهنة التي يمارسها الآن وفقًا لعادات وتقاليد النوبة. وأكد "الجبالي" أن أهل النوبة يعانون تهميشًا من الدولة، فلا أحد ينظر إليهم، واهتمامات الدولة تكاد مقصورة فقط على القاهرة الكبري، وغيرها من المحافظات تهان في الحصول على كافة الخدمات التي هي حقوق لها من الأساس، مطالبًا الدولة بالنظر إلى النوبين وأحوالهم ومراعاة عاداتهم واعتبارهم مواطنين من الدرجة الأولى، وليسوا تحت الصفر. وأوضح أن هيئة النقل النهري ترفض حصولهم على تراخيص، على الرغم من أن كمًّا كبيرًا من السياحة المتواجدة في أسوان يقوم على أساس النيل والتنقل داخله، كالوصول إلى معبد "فيلة" في أسوان، ومعبد "إدفو"، وغيرهما.