من النادر تاريخياً أن يوجد مبنى أرتبط بالمقاومة مثلما ارتبطت قلعة الشقيف، التي كانت عنوان رئيسي في معارك المقاومة منذ السبعينات وحتى خروج الاحتلال الإسرائيلي من لبنان عام آلفين، فبخلاف الغارات والعمليات العسكرية المحدودة، شهدت القلعة طوال هذه الفترة معركتين كبيرتين الأولى عام 1980 وعام 1982، والأخيرة كانت بحق اسطورة واقعية تصدى فيها ثلاثة وثلاثون شاب من حركة فتح والحزب الشيوعي اللبناني وحزب العمال الكردستاني، للواء النخبة "جولاني"، سرب طائرات مروحية، كتيبة مدفعية، كتيبة دبابات، سرية مظليين، وأخيراً تشكيل من طاائرات الفانتوم، والذين أرادوا بتوجيه من رئيس الوزارء الإسرائيلي مناحم بيجين ووزير الدفاع آرائيل شارون اقتحام قلعة الشقيف واحتلالها، فصمد أمامهم لأيام شباب فلسطينيولبناني ويمني وكردي في قتال حتى أخر واحد منهم. تبدأ القصة منذ أواخر عام 1979، في أعقاب عملية عسكرية اسرائيلية في مارس 1978 هدفت إلى إبعاد المقاومة إلى ما وراء نهر الليطاني، حيث بدأ العدو الإسرائيلي بالتحضير لعملية اختبار لقوة المقاومة الفلسطينية وراء نهر الليطاني في جنوبلبنان، لمعرفة مدى القوة النيرانية والعملياتية في حال اجتياح الجنوباللبناني، لتأمين شمال فلسطينالمحتلة من نيران المقاومة وعمليات الإنزال العديدة، وشكل هذا وقتها الهدف الأمني والدفاعي الأول لجيش الاحتلال. تقع قلعة الشقيف على ربوة صخرية مرتفعة تطل على نهر الليطاني وسهل مرجعيون، والنبطية، وبنيت القلعة إبان الحملات الصليبية وأطلق عليها الفرنسيون اسم "قلعة بوفارت" وسماها العرب قلعة "أرنون"، وتتكون القلعة من عدة تحصينات بنيت من الصخور الطبيعية حولها، لتتخذ شكل ونمط المنطقة الجبلية الميطة بها، وتشكل مع الممرات والمغارات الجبلية سلسلة من التحصينات الطبيعية والبشرية، كان من الصعب على مدار الحروب الصليبية تحريرها ومحاصرتها، إلى أن حررها الناصر صلاح الدين عام 1194. ومع تمركز المقاومة الفلسطينية في جنوبلبنان بعد عام 1970، عقب خروجها من الأردن بعد مذبحة أيلول الأسود، كانت قلعة الشقيف بمثابة نقطة التمركز الأولى للمقاومة الفلسطينية شمال نهر الليطاني، وهو ماجعلها نقطة ربط وانطلاق لعمليات المقاومة داخل فلسطينالمحتلة، سواء التسلل أو القصف. وهو ما جعل الإسرائيليون يروها كهدف أولى في استراتيجية القضاء على المقاومة الفلسطينية، أو ابعادها لأقصى شمال الليطاني بالغارات والعمليات البرية المحدودة سواء بالإنزال او الاجتياح. فأنشأ جيش الاحتلال نموذج مشابهة للقلعة في هضبة الجولان المحتلة لتدريب جنود لواء النخبة في القوات البرية "جولاني" على اقتحامها لمدة ستة أشهر، وتقرر القيادة الإسرائيلية شن عملية استطلاع في بداية شهر أغسطس عام 1980، لتطمئن إلى أنه لا امداد او معاونة ستأتي للقوة المرابطة في القلعة، وهو مايعني أن عملية الاستيلاء عليها ستكون خاطفة ولن تستغرق سوى ساعات حسب ما ذكره اللواء شاؤول ناكديمون، الذي شارك في هذه العملية عندما كان برتبة رائد وقائد لكتيبة المظلات. بدء الهجوم الإسرائيلي ليلة التاسع عشر من أغسطس، حيث احتشدت القوات الإسرائيلية على بعد عدة كيلومترات من القلعة، وبدء المقاومين في الانتشار والتمركز في القلعة والمواقع القريبة منها في منطقة النبطية، والاستعداد لصد الموجة الأولى من الهجوم، الذي بدأ كعادة القوات الإسرائيلية بقصف جوي ومدفعي مكثف، تلاه تقدم وحدات لواء جولاني حتى مسافة قريبة فبادر عناصر المقاومة إلى فتح النيران من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة مما اسفر عن سقوط عدد من جرحى وقتلى جنود جولاني، وبدءوا في التخبط والانسحاب بغطاء قصف كثيف من المدفعية الثقيلة لجيش العدو، وطورت المقاومة دفاعها إلى هجوم مضاد للحيلولة دون تقدم القوات الإسرائيلية مرة أخرى، بالفعل استطاعت مجموعة من المقاومين الالتفاف على القوات الإسرائيلية المتقدمة وحاصرتهم لمدة يومين حتى استعانت القوات الإسرائيلية بطائرات الفانتوم، التي قصف القلعة ومحيطها بعشرات الصواريخ الموجهة حتى يتمكنوا فقط من سحب جرحاهم وجثث قتلاهم، لتنتهي محاولة الاحتلال الاسرائيلي الاولى للاستيلاء على القلعة، خسر فيها ثلاثة وستون جندي وضابط مقابل استشهاد 25 من المقاومين، ويبدأ حصار وسلسلة غارات دورية عليها حتى عام 1982، وهو العام الذي شهد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. كانت القلعة على الرغم من الغارات المستمرة عليها، هدفا رئيسياً للطيران والمدفعية الإسرائيلية في عملية اجتياح لبنان عام 1982، حيث مثلت الغارات الجوية والقصف المدفعي على القلعة ومحيطها بداية العملية العسكرية الإسرائيلية التي وصلت حتى العاصمة بيروت..واعتبر بيجين والقادة الصهاينة أن سقوط القلعة انتصار مهم لإسرائيل، لدرجة أنه زار بنفسه القلعة بعد سقوطها ليعلن أمام الكاميرات الإسرائيلية والعالمية أن الشقيف تمثل بداية نهاية المقاومة. لكن ما كشف عنه الإسرائيليون بعد ذلك بسنوات في فيلم وثائقي يدعى "بوفور"، وما فرضته وقائع السنوات التالية، افرغ تصريح بيجين واستراتيجة إسرائيل من محتواها وجديتها. فكشف الإسرائيليين عن حجم قوتهم وقوة المقاومة، التي قُدرت بنسبة خمس عشر إسرائيلي إلى مقاوم واحد، ناهيك عن طغيان ميزان القوى النيرانية والتفوق الجوي والتطور النوعي لصالح إسرائيل، التي أقرت استخدام الأسلحة الكيماوية لضمان القضاء على مقاومي الشقيف بعد أسابيع من الحصار والقتال المتواصل، لتكتشف القيادة العسكرية أن من أوقع بهم عشرات القتلى وصمدوا لأيام أمام مدفعياتهم ودباباتهم وطائراتهم، هم ثلاثة وثلاثين شاباً، مقابل ما يزيد عن ألف ومائتين جندي وضابط إسرائيلي. يقول المقدم "آزوف" ، قائد القوات الإسرائيلية التي احتلت قلعة الشقيف: "لقد تلقيت أمراً من قائد اللواء، الجنرال يكوتئيل آدام"، في حوالي الخامسة من مساء يوم الأحد 7 يونيه، بمهاجمة قلعة الشقيف، وتطهيرها من القوات الفلسطينية المتمركزة فيها. وأُبلغتُ بأن عليّ أن استوليّ على الحصن من أيدي الفلسطينيين المرابطين فيه. وكان تحت قيادتي 9 دبابات و17 ناقلة جند مدرعة. وفي الساعة السابعة والنصف، كنت مع قواتي على بعد عشرات الأمتار فقط من الحصن، دون أن نواجه أي مقاومة. ونزل العديد من الجنود من مدرعاتهم، واقتربوا مني. وبينما كنت أرد على استفسارات الجنود، استعداداً لاقتحام الحصن، فُتحت علينا النيران من كل جانب. لقد أمطرونا بالقذائف الصاروخية والبازوكا، وتعالى الصراخ والصياح بين الجنود. لقد قُتل، في الحال، جميع الجنود، الذين كانوا خارج دباباتهم ومدرعاتهم. وأخذت أصرخ بالجنود للتقهقر إلى الخلف، لإعادة التنظيم والانتشار. لم يكن هناك أي مجال للنجاة، لقد وقعنا في المصيدة. استمر تبادل إطلاق النيران بيننا وبينهم حتى العاشرة ليلاً . وفي تلك الأثناء، وصلتنا تعزيزات كبيرة، وتم إخلاء القتلى والجرحى، ولم يبقَ من قواتي (90 جندياً، 7 ضباط) سوى سبعة جنود فقط. كما دُمِّرت الدبابات والآليات المدرعة. كان عدد الفلسطينيين 33 فرداً ولم نأسر أي فرد منهم، لأنهم قاتلوا حتى الموت، ولم يستسلم أحد. لقد دهشت من ضراوة مقاومة هؤلاء الفلسطينيين. إننا لم نحسن تقدير قوتهم الحقيقية". بالتأكيد كانت عبارة مناحيم بيجن خاطئة..فلا الشقيف بقيت محتلة، ولا المقاومة انتهت، وإذا اعتبرنا أن أخر حملات إسرائيل العسكرية "الناجحة" كانت اجتياح لبنان1982، والذي سقطت فيها الشقيف فأن منذ ذلك التاريخ سطرت بداية نهاية إسرائيل لا المقاومة التي عمدت بدماء شهداء الشقيف، ليس في لبنانوفلسطين فحسب ولكن أيضاً في كل مكان تواجد به الصهاينة وحلفاءهم.