رأى النور في زمن انتفاضة عمال باريس، عام 1871، التي انتهت بأنهار من الدم بعد شهر، حيث وُلد في قبو على وقع دويّ المدافع، وهذا ما يشير إليه في رسالة كتبها عام 1913، وفيها يقول: "بين المجازر والحرائق ومشاهد الذعر، من هذا القبو الذي ولدت فيه، أعتقد أني حفظت في العينين وفي الروح هذه المادة الفانية التي تُثبّتها النار وتغشّيها". جورج رووه، الذي تمر اليوم ذكرى وفاته، نشأ في كنف عائلة فقيرة، وكان أبوه حرفيا يعمل في صناعة البيانو، أحب الفن منذ نعومة أظفاره، وساندته أمه في تنمية ولعه بعالم الرسم واللون. في الرابعة عشرة من عمره، دخل محترف أحد الصناعيين المختصين بترميم الزجاج المعشّق، ويبدو أن هذه "الدورة التدريبية" تركت أثرا بالغا فيه على المستوى التشكيلي، وهذا ما يشهد له أسلوبه في تحديد عناصر تأليف المشهد التصويري بخط أسود حاد يظهر بقوة في الرسوم التخطيطية كما في المائيات والزيتيات التي صاغها على مدى سبعة عقود من العمل المتواصل. في العشرين، دخل رووه معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على يد غوستاف مورو، أشهر "معلّمي" الرسم في نهاية القرن التاسع عشر. تعرّف الرسام المبتدئ في تلك الفترة الى هنري ماتيس، تلميذ آخر من أشهر تلاميذ مورو، ونشأت بين الفنانين الشابين علاقة وطيدة استمرت مع الزمن، على رغم انتهاج كل منهما خطاً فنياً يبدو في ظاهره نقيضاً للخط الآخر. رأى ماتيس في الرسم ضرباً من ضروب الإمتاع، وحالاً من التناسق والنقاء والهدوء بعيدا من الرؤى الفكرية والأسئلة الوجودية، "تماما كالجلوس على مقعد وثير" بحسب قوله. أما رووه، فقد التزم التعبير عن ألم الإنسان وبحثه الدائم عن ذاته في عالم تغلب عليه قسوة الحياة، وقال في واحدة من أشهر كتاباته: "الرسم بالنسبة اليَّ طريقة لنسيان الحياة. هو صرخة في قلب الليل، نحيب مكتوم، وضحكة تختنق". تبنّى غوستاف مورو تلميذه جورج رووه وحضنه حتى وفاته في عام 1898، وأنجز الرسام الشاب في هذه السنين أعمالا تظهر تمرّسه بأصول الرسم، منها "المسيح الطفل بين شيوخ الهيكل" التي تعود إلى عام 1894، و"المسيح الميت بين النسوة القديسات"، وهي من إنتاج 1895. تبدو هذه الأعمال كلاسيكية بامتياز، ولا يظهر فيها أيّ اثر من آثار الانطباعية، أولى مدارس الحداثة في باريس التي تحولت في مطلع القرن العشرين إلى عاصمة عالمية للفن التشكيلي بتوجهاته الجديدة المتعددة المذهب. بعد رحيل معلّمه، بدأ رووه بانتهاج أسلوب مغاير، وأدّى هذا التوجه إلى ما يشبه القطيعة مع المرحلة الأكاديمية، وهذا ما تشهد له مجموعة اللوحات التي يعرضها مركز جورج بومبيدو حتى الثالث عشر من شهر تشرين الأول تحت عنوان "تحية إلى جورج رووه". يظهر هذا التحول بشكل حاد في ورقة تجمع عملين من أعمال الرسام. على ظهر الورقة، رسم كلاسيكي يمثل مشهدا طبيعيا خطّه رووه بالحبر عام 1892، وعلى وجه الصفحة مائية من إنتاج 1910 "درج في حديقة فرساي" بأسلوب تعبيري حر يتميز بضربة الريشة الحادة المنفلتة من قيود المحاكاة الدقيقية للواقع المرئي. أقدم الأعمال المعروضة يعود إلى عام 1905، وعددها ثلاثة، منها لوحة لعارية أمام المرآة، وأخرى لعارية واقفة، أما الثالثة، فمن مشاهد السيرك التي دأب الرسام على تصويرها. يختصر أسلوب هذه الأعمال الطريقة التي ابتدعها رووه في الرسم والتلوين وهو في العقد الرابع من عمره، وقد التزمها حتى وفاته عن سبعة وثمانين عاما. عاصر رووه ولادة المدرسة الوحشية وارتبط بصداقة مع اثنين من أشهر أعلامها، هنري ماتيس وألبر ماركيه، وشارك معهما في "صالون" عام 1902. في تلك المرحلة، عشق ماتيس ورفاقه نور العالم المتوسطي، وانتقلوا إلى جنوبفرنسا حيث غيّر نور الشمس كل شيء من حولهم، واعتمدوا في لوحاتهم طريقة جديدة تقوم على الرسم المختزل والألوان الصافية الصارخة، وقد عُرف هذا الأسلوب لاحقا ب"الوحشي". جاءت هذه التسمية حين عاد ماتيس مع زملائه من الجنوب إلى باريس عام 1905 ليعرضوا أعمالهم في معرض الخريف المستقل. بدت لوحاتهم بالنسبة الى الأكاديميين كأنها من إنتاج وحوش برية، فوصفهم أحد النقاد ب"المتوحشين" وكتب ناقد آخر: "لقد ألقوا بوعاء من الألوان في وجه جمهور المشاهدين". رافق رووه صاحبيه ماتيس وماركيه في هذه المغامرة الفنية في بداياتها الأولى، غير أنه التزم خطا تعبيريا خاصا مناقضا للوحشية، وغلب على أعمله اللون الأسود الذي عمّدها بقتامه النيّر. وفي حين التزم ماتيس وماركيه اللغة اللونية الصافية والأشكال المختزلة بعيدا من "الهم الوجودي"، اختار رووه النزول إلى الهاوية، وكتب معلّقا على هذا الاختيار: "الفن الذي أصبو إليه هو التعبير الأعمق والأكمل والأبلغ أثرا عما يشعر به الإنسان في مواجهته مع نفسه ومواجهته مع الإنسانية جمعاء".